التماسك الاجتماعي ركيزة المواطنة الحقة
” تغمرني الغبطة وأنا أخاطب بنات وأبناء بلدي عموما وأفراد قواتنا المسلحة خصوصا عبر هذا المنبر الأغر، بمناسبة احتفالنا بعيد الاستقلال المجيد في ذكراه الستين، مناسبة نستحضر فيها بكل فخر واعتزاز ذلك اليوم الذي سيبقى إلى الأبد راسخًا في ذاكرتنا الجماعية. هذا اليوم الذي توج نضال الشعب الجزائري الأبي وكفاحه المرير والمستميت، طيلة أكثر من مائة وثلاثين سنة، استبسل خلالها في المقاومة والدفاع عن أرضه وعرضه وفجر ثورة مظفرة تظل مثالا للكفاح من أجل التحرر.
واجب العرفان للتضحيات الجسام التي قدمها الأسلاف، يقتضي أن اغتنم هذه السانحة لأترحم بكل خشوع وأنحني بإجلال أمام ملايين الشهداء الأبرار الذين وهبوا حياتهم لأجل حرية وطنهم، كما أتوجه بتحية تقدير إلى المجاهدات والمجاهدين، وأشيد بتضحياتهم في معركة التحرير وفي إعادة بناء وتشييد الوطن دون أن أنسى شهداء الواجب الوطني الذين وهبوا حياتهم للحفاظ على أمن بلادنا ووحدة شعبها.
وفي غمرة الاحتفالات المخلدة لستة عقود من الاستقلال، لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يغيب عن أذهاننا الوضع المزري الذي كانت عليه بلادنا غداة الاستقلال، على كل الأصعدة بدون استثناء سيما في مجال التعليم، حيث حُرم منه السواد الأعظم من الجزائريين، 90 % أميين، لكن ذلك لم يكن ليمنع الشعب الجزائري من مواجهة هذا الوضع ورفع تحديات كبرى في ظرف سنوات قليلة، وبذلك سقطت آمال الاستعمار الذي راهن على شل قدرة بلادنا على تسيير الشؤون العامة والشروع في مرحلة البناء، التي لا تقل أهمية عن معركة التحرير.
وإن كانت معركة التشييد شاقة في بعض مراحلها، فقد جسدت الورشات الضخمة التي أُطلقت عبر التراب الوطني لبناء البلاد وإعادة تعميرها أبرز طموحات الشعب الجزائري، وتبقى الإنجازات والمكاسب المحققة على أكثر من صعيد شاهدة على الإرادة الفولاذية التي تحلى بها لمحو آثار ومخلفات الاستعمار البغيض.
ومن وحي مبادئ ثورة نوفمبر المظفرة، وبالنظر إلى الإصرار الذي يحدونا للتمسك بالنهج القويم الذي سار عليه شهداؤنا ومجاهدونا، وعلى نهج إحداث تغيير شامل يمكن بلادنا من تحقيق نهضة حقيقية في شتى المجالات، فإنني أوليت اهتماما بالغا للذاكرة الوطنية بأن أدرجتها ضمن الالتزامات الـ 54 التي تعهدت بها أمام الشعب. تبقى هذه المسألة التي هي من صميم انشغالات الدولة، أبعد ما تكون عن العمل المرتجل أو التي تمليها ظروف معينة، بل هي واجب وطني مقدس. وقد قطعنا في الفترة السابقة خطوات معتبرة في سياق الحفاظ على ذاكرتنا الوطنية في انتظار تجسيد خطوات أخرى.
كما شرعت بلادنا قبل أكثر من سنتين، بكل عزم في مسعى تقويمي شامل يقوم على خطوات متأنية ومدروسة بعناية، قصد إعادة المصداقية والثقة لمؤسسات الدولة وكذا مواجهة التحديات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
فمثلما سبق والتزمنا به أمام شعبنا، غداة انتخابنا رئيسا للجمهورية، استكملت بلادنا بناءها المؤسساتي، لتتفرغ للشأن الاقتصادي. وعليه، تم إعمال إصلاحات ترمي إلى إنعاش الاقتصاد الوطني، من خلال تسريع تنميتها وتنويع صادراتنا خارج المحروقات، مما سينعكس إيجابا على الجانب الاجتماعي لمواطنينا، وتندرج هذه الخطوة في إطار الالتزام الذي سبق أن أعلنت عنه بالحفاظ على الطابع الاجتماعي للدولة مهما كانت الظروف، تماشيا مع مبادئ ثورتنا وبيان أول نوفمبر.
وتأتي الإجراءات التي اتخذتها مؤخرا ضمن هذا التوجه، سواء ما تعلق بتحسين الوضع الاجتماعي لمواطنينا، حيث استفاد في هذا الإطار أكثر من مليون من شبابنا من منحة البطالة كحل ظرفي في انتظار توفر فرص عمل تمكنهم من ولوج عالم الشغل، وهو ما سيأتي حتما كنتيجة للسياسة المنتهجة في مجال التنمية الاقتصادية، أو بشأن تحسين القدرة الشرائية للجزائريين من خلال رفع رواتب الموظفين في حدود ما تسمح به الإمكانيات المالية للدولة.
وضمن هذا المسعى الوطني الرامي لإعادة البلاد إلى سكتها الصحيحة ومنحها المكانة التي تستحق، في ظل تضافر جهود جميع المخلصين من أبناء الوطن، لا يسعني إلا أن أنوه بالدور الفعال والريادي للجيش الوطني الشعبي، في مجال إعطاء دفع للصناعات الوطنية عبر المساهمة بفعالية في المجهود الوطني لترقية وتطوير اقتصادنا.
في هذا الصدد، وبغرض بلوغ الأهداف المسطرة في الشق المتعلق بإعطاء الصناعة الوطنية مكانة هامة ضمن الاقتصاد الوطني، سنركز في المرحلة القادمة على تعزيز النسيج الصناعي الوطني وتطوير الصناعات العسكرية على نحو يمّكن من استحداث مناصب شغل لشبابنا والتوجه للتصدير، بعد تلبية احتياجات السوق الوطنية.
والحديث عن الجيش الوطني الشعبي، يدفعني لتوجيه تحياتي الخالصة لمستخدمي قواتنا المسلحة التي تسهر دون هوادة على حماية حدودنا المديدة ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، فتحية تقدير إلى رجالنا الأشاوس المرابطين على الثغور نظير جهودهم المخلصة وتفانيهم في الدفاع عن سيادتنا الوطنية ووحدتنا الترابية.
من جهة أخرى، أجدد تعهدي بمواصلة مسار تطوير قدرات الجيش الوطني الشعبي على كل الأصعدة، من خلال مواصلة تنفيذ برنامج تطوير قواتنا، ومن ثم الرفع من قدراتها القتالية وجاهزيتها العملياتية، من أجل مواكبة المستجدات التكنولوجية المتسارعة.
على هذا الأساس وبهدف تحسين قدرات مستخدمي قواتنا المسلحة، سأواصل إيلاء أهمية قصوى للتكوين في الجيش الوطني الشعبي، بما يترتب عن ذلك من تحسين مستمر للبرامج المعتمدة في مجال التكوين والبيداغوجيا، وكذا تكييف مختلف طرق التعليم في مختلف مدارس الجيش الوطني الشعبي، لتواكب التطورات المسجلة في المجال التكنولوجي.
وبالنظر إلى المكانة المرموقة التي يحظى بها الجيش الوطني الشعبي في وجدان الأمة والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتزعزع، بل تزداد متانة وصلابة، ونظرا لمكانته الريادية ضمن مؤسسات الدولة والجهود المضنية التي بذلها لمنع انهيار الدولة خلال سنوات التسعينيات والحفاظ على أمانة الشهداء وإرساء موجبات الاستقرار والأمن الوطنيين، ستحتفل بلادنا يوم 04 أوت المقبل باليوم الوطني للجيش الوطني الشعبي، بعد أن رسمته بمناسبة زيارتي الأخيرة إلى مقر وزارة الدفاع الوطني، إحياء لذكرى تحوير جيش التحرير الوطني إلى الجيش الوطني الشعبي بتاريخ 04 أوت 1962.
في هذه الذكرى المجيدة التي نستحضر فيها بطولات أسلافنا ونحيي ذكرى مقاومات شعبنا وانتصاراته، أدعو الشعب الجزائري في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخنا إلى لم الشمل ورص الصفوف وتوحيد الجبهة الداخلية، قصد كسب معركة التجديد التي نخوضها لكسب الرهانات وتحقيق تطلعاتنا وغايتنا المنشودة في جزائر قوية، شامخة وآمنة مثلما أرادها شهداؤنا الأبرار.
إنني على قناعة أن الشعب الجزائري، ومثلما تمكن بالأمس من دحر أعتى قوة استعمارية واستعادة السيادة الوطنية، قادر اليوم على مواجهة كل التحديات وتجسيد الجزائر الجديدة على أرض الواقع”
السيد عبد المجيد تبون