في تحول لافت في الاستراتيجية الروسية تجاه منطقة الساحل الإفريقي، أظهرت زيارة رئيس المجلس العسكري الانتقالي في مالي، العقيد آسيمي غويتا، إلى موسكو، اعتماد ثلاث اتفاقيات شراكة جديدة، تبنيًا واضحًا للمقاربة الجزائرية في معالجة أزمات المنطقة، وهي مقاربة ترتكز على التنمية الاقتصادية وتعزيز الاستقرار الاجتماعي بدل التدخلات العسكرية المباشرة.
خلال لقائه مع غويتا، شدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أن بلاده ترى في التعاون مع مالي فرصة لبناء مشاريع مشتركة في الاستكشاف الجيولوجي، وتطوير الموارد الطبيعية، والطاقة، والخدمات اللوجستية، والمبادرات الإنسانية. وهي أولويات تعكس تحولًا في الفهم الروسي لديناميات المنطقة، والتي لطالما كانت تخضع لمقاربات أمنية وعسكرية فرضتها دول غربية، وعلى رأسها فرنسا.
الجزائر ستظل رقم فاعل في الأمن والسلام في الساحل
يبدو أن المقاربة الجزائرية التي لطالما دعت إلى معالجة جذور الأزمات من خلال دعم التنمية، وتعزيز مؤسسات الدولة، وحل النزاعات بالحوار السياسي، تجد اليوم صدى. فلطالما رفضت الجزائر التدخلات العسكرية الأجنبية، خصوصًا في مالي، ودافعت عن مبدأ “الحلول الإفريقية للمشاكل الإفريقية” في مختلف المحافل الدولية.
ولا يبدو أن هذا التقارب الروسي الجزائري في الرؤية تجاه الساحل جاء بمحض الصدفة، فقد كثّف البلدان في السنوات الأخيرة تعاونهما الدبلوماسي والعسكري، وعبّرا عن توافق عالٍ في ملفات الساحل، النيجر، ليبيا، وحتى القضية الفلسطينية.
هل تتجه موسكو إلى تبني مقاربة الجزائر؟
بينما استثمرت روسيا في السنوات الأخيرة في الدعم الأمني والتدريب العسكري لبعض دول الساحل، فإن الخطاب الجديد يعكس تحولًا نحو مقاربة تمزج بين النفوذ السياسي والدعم التنموي، بعيدًا عن الحضور العسكري المباشر الذي وُصم به الوجود الفرنسي في مالي، النيجر، وبوركينا فاسو وخاصة بعد إعلان مغادرة مرتزقة فاغنر وتعويضها بالفيلق الإفريقي الذي يمثل الجيش الروسي مباشرة.
ويُعد توقيع اتفاق بشأن الاستخدام السلمي للطاقة النووية من أبرز مؤشرات هذه الشراكة المتقدمة، حيث يُنتظر أن تسهم روسيا في تمكين مالي من تقنيات الطاقة البديلة في إطار مشاريع طويلة الأمد، تتجاوز المقاربة الأمنية الضيقة التي هيمنت على تعاطي القوى الغربية مع المنطقة.
الجزائر: الأمن المستدام لا يُبنى بالدبابات.. بل بالمدارس والمستشفيات
في عدة مناسبات، أكدت الجزائر على لسمان وزير الخارجية أحمد عطاف أن إفريقيا تحتاج إلى حلول تنبع من داخل القارة، مبنية على تنمية شاملة تعالج جذور الأزمات لا أعراضها.
و خلال كلمته أمام مجلس الأمن الدولي في أبريل 2024، قال عطاف أن أزمات منطقة الساحل لا يمكن حلّها بالقوة أو التدخلات العسكرية، بل عبر مقاربات تنموية شاملة تعالج جذور الفقر والتهميش.
وقال عطاف: “لا لقانون القوة، بل نعم لقوة المنطق. إفريقيا بحاجة إلى حلول محلية، قائمة على التنمية والتعليم والبنية التحتية والتكنولوجيا، بدلًا من السياسات المفروضة من الخارج.”
وأشار إلى أن الجزائر، من خلال مبادراتها الإقليمية، وعلى رأسها مبادرة الحوار النيجرية، تلتزم بسياسة تحترم سيادة الدول وتُقصي أي تدخل خارجي. هذه التصريحات تعكس بوضوح رؤية الجزائر القائمة على التنمية كسبيل وحيد لتحقيق الأمن والاستقرار في الساحل الإفريقي.