كان حلمًا يداعب مخيّلة الجزائريين منذ عقود، مشروع لطالما وُصف بـ”العملاق النائم”، ظل حبيس الأدراج، ومقيدًا بأصفاد البيروقراطية والضغوط الخارجية والفساد الداخلي. غار جبيلات… ذاك الاسم الذي لطالما تردّد في خطابات الطموح المؤجل، صار اليوم عنوانًا لنهضة اقتصادية تُعيد رسم موقع الجزائر في الخريطة العالمية للحديد والصناعة الثقيلة.
في قلب الصحراء، على مشارف تندوف، تحوّل الحلم إلى حقيقة. أكثر من 3.5 مليار طن من خام الحديد، منها 1.7 مليار قابلة للاستغلال، لم تعد أرقامًا على ورق، بل مشروعًا عملاقًا ينبض بالحياة، مدعومًا ببنية تحتية تمتد مئات الكيلومترات، وبإرادة سياسية صلبة بقيادة الرئيس عبد المجيد تبون.
قصة حلم رفض أن يموت
إنه تحوّل ليس فقط في الاقتصاد، بل في العقلية فالمشروع انتصر بفضل تصميم دولة قررت أن تنفض الغبار عن كنوزها، وتدخل نادي الكبار كلاعب فاعل في أسواق الحديد العالمية فغار جبيلات لم يعد مشروعًا وطنيًا فقط، بل صار رمزًا للتحوّل، ودليلًا على أن الجزائر حين تُقرّر… تُنجز في عهد الرئيس تبون.
اكتُشف غار جبيلات سنة 1952 خلال الفترة الاستعمارية، وظل منذ ذلك الوقت موضع اهتمام استراتيجي. ومع بزوغ فجر الاستقلال، أدرك الرئيس الراحل هواري بومدين الإمكانيات الهائلة لهذا المورد، فأدرجه ضمن رؤيته لبناء اقتصاد وطني مستقل. غير أن المشروع سرعان ما تعثّر، بسبب تحديات تمويلية وتقنية، ونقص في البنية التحتية الضرورية للاستغلال.
الرئيس تبون يعيد إحياء المشروع يمسح كل العراقيل
منذ 2019، ومع وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم، أعيد إحياء المشروع بمنظور جديد. لم يعد غار جبيلات مجرد ملف اقتصادي مؤجل، بل أصبح مشروعًا سياديًا بامتياز.
على امتداد العقود، واجه مشروع غار جبيلات مقاومة شرسة من أطراف خارجية، التي سعت للحفاظ على امتيازاتها في السوق الإقليمية للمعادن. هذه العراقيل لم تكن فقط تقنية أو مالية، بل اتخذت طابعًا سياسيًا واقتصاديًا مدروسًا، استهدف تعطيل أي مشروع استراتيجي يعزز من استقلال القرار الاقتصادي الجزائري أما داخليًا، اصطدم المشروع بأصوات معرقلة داخل الإدارة عملت على تأجيل المشروع تحت ذرائع متعددة، بينها تعقيدات النقل، وصعوبات التمكين التكنولوجي، وتضخيم التكاليف.
خط السكة ..شريان حياة الجنوب الغربي
يمتد المشروع الكلي على طول 950 كيلومترًا، ليربط قلب الجنوب الغربي بأهم المناجم الوطنية، ويفتح بذلك الباب أمام ديناميكية اقتصادية غير مسبوقة في المنطقة. هذا الربط الحديدي ليس مجرد خط نقل، بل يُعد أداة حقيقية لإعادة توزيع النشاط التنموي، وتعزيز التكامل بين الموارد الطبيعية والبنى الإنتاجية.
وجاء إنجاز خط السكة الحديدية الذي يربط تندوف بالمنجم بطول 135 كلم، وضمن شبكة تربط المنطقة ببشار على مسافة إجمالية تُقارب 950 كلم، ليشكل نقطة الانعطاف الكبرى.
نحو اقتصاد متوازن ومستدام ..وسيادة اقتصادية بعيدا عن الريع
يتوقع أن يسهم المشروع في خلق آلاف مناصب الشغل المباشرة وغير المباشرة، وفي دفع عجلة النمو في ولايات الجنوب. كما يُنتظر أن يُسهم في تقليص الفوارق الجهوية، ويُعزز التوازن في توزيع الثروات عبر الوطن.
الخط المنجمي، في جوهره، يعكس إرادة سياسية واضحة لتنويع مصادر الدخل الوطني، بعيدًا عن الاعتماد الحصري على الريع البترولي. ويشكّل غار جبيلات، كواحد من أكبر مناجم الحديد في العالم، موردًا استراتيجيًا يُمكن أن يُحوّل الجزائر إلى قوة معدنية وصناعية إقليمية، بشرط التكامل بين الاستخراج، التحويل، والتصدير.
بهذا الإنجاز، تؤكد الجزائر مضيّها قدمًا في تجسيد رؤيتها لبناء اقتصاد متنوع ومستدام، يستند إلى استغلال الإمكانات الطبيعية الكامنة، وتوظيفها في مشاريع ذات بعد وطني وقاري. مشروع الخط المنجمي، بكل تفاصيله، ليس مجرد بنية تحتية، بل شاهد على جزائر جديدة تضع التنمية الشاملة، والاستقلال الاقتصادي، في قلب أولوياتها.
الجزائر تستعد لاقتحام سوق الحديد والمعادن النادرة
في ظل الاضطرابات التي عرفتها صادرات أستراليا والبرازيل، وتزايد استهلاك الحديد في مشاريع التحول الطاقوي والبنية التحتية بالصين والهند، بات السوق بحاجة ماسة إلى منتجين جدد يتمتعون بالاستقرار السياسي والقدرة الإنتاجية، وهنا تبرز الجزائر كلاعب واعد.
التقديرات تشير إلى أن الجزائر، في حال تطوير قدراتها التحويلية والمينائية، قد تُصدّر عشرات الملايين من الأطنان سنويًا خلال العقد المقبل، ما يجعلها قادرة على ملء فراغات استراتيجية في السوق، خاصة في أوروبا وإفريقيا جنوب الصحراء.
شراكة مع الصين… وخطط للاندماج في سلسلة القيمة العالمية
من أبرز مميزات المشروع، الشراكة الجزائرية–الصينية، التي لم تقتصر على التمويل، بل شملت نقل التكنولوجيا والخبرة، مما يعزّز من فرص بناء صناعات تحويلية متكاملة، من استخراج الحديد الخام، إلى إنتاج الفولاذ ومشتقاته