في عالم يتجه بسرعة نحو اصطفاف إعلامي مُمنهج، يُعاد فيه رسم خرائط التأثير وفق أجندات سياسية واقتصادية معقدة، تبرز محاولة غلق قناة “بوتوب” البعثة الجزائرية في الأمم المتحدة الجزائرية كعلامة فارقة تؤكد أن الرسائل الحرة والمستقلة لم تعد مقبولة في فضاء يتحرك باتجاه واحد،
هذه المحاولة، التي بدت للوهلة الأولى وكأنها قضية تنظيمية أو تقنية، تُخفي خلفها ما هو أعمق: استهداف منهجي لأي صوت يفضح الازدواجية الإعلامية والسياسية
قناة يوتوب التابعة للبعثة الجزائرية التي روجت منذ تأسيسها لخطاب مغاير للسائد، سلطت الضوء بشكل غير مألوف على الدور الذي لعبته الجزائر – دبلوماسياً وإنسانياً – في الدفاع عن القضية الفلسطينية وقضايا العالم العربي والإفريقي، خاصة منذ انتخابها عضواً غير دائم في مجلس الأمن.
لكن هذا الخطاب لم يكن مرحباً به في بيئة إعلامية عربية ودولية تشهد تحولاً بنيوياً نحو التطبيع الإعلامي والسياسي، حيث أصبحت المنابر الكبرى إما أدوات تبييض لصفقات سياسية أو أبواقاً للتوازنات الإقليمية الجديدة.
تاريخ الجزائر عقدة لمن لا تاريخ لهم
كل صوت جزائري – رسمي أو غير رسمي – يُذكّر بالماضي التحرري للجزائر وبمواقفها الثابتة من الاحتلال الإسرائيلي ومن مشاريع الهيمنة في إفريقيا، بات يُقلق دوائر التأثير التي تسعى لكتابة تاريخ جديد بمنطق السوق لا المقاومة.
والجزائر، التي قادت جهوداً داخل مجلس الأمن لوقف العدوان على غزة، وطالبت بحماية دولية للفلسطينيين، وتصدّت لمحاولات إسرائيل اختراق الاتحاد الإفريقي، وجدت نفسها محاصرة إعلامياً من كل الجهات ولم تكن المشكلة في عدم نقل مواقفها، بل في محاولة دفنها إعلامياً وكأنها لم تحدث.
الجزائر في قلب العاصفة الإعلامية
محاولة غلق القناة ليست مجرد إجراء قانوني أو تنظيم للبث، بل رسالة تحذير لكل من يحاول كسر النسق السائد: أن تروي الحقيقة، فذلك لم يعد حقاً مضموناً في فضائنا الإعلامي، بل جريمة صامتة في عُرف الأنظمة وأذرعها الإعلامية.
ما تتعرض له الجزائر اليوم – إعلامياً وسياسياً – لا يُفهم إلا في سياق أوسع:
• بلدٌ يرفض التطبيع،
• يُندد بازدواجية المعايير،
• يقف ضد عسكرة العلاقات الإفريقية،
• ويدافع عن فلسطين دون حسابات.
هذا الموقف – مهما كان نبيلاً – لم يعد يروق لمن يرسم خرائط النفوذ الجديدة في المنطقة. ومن هنا، فكل قناة تُعيد الصوت الجزائري إلى الواجهة، حتى لو كانت صغيرة أو مستقلة، تُعتبر تهديداً يجب تحييده.
الحجب لا يلغي الحقيقة
مهما كانت نتيجة محاولة غلق قناة “بوتوب البعثة الجزائرية في الأمم المتحدة، لكن الحقيقة، كما التاريخ، لا يمكن حذفها نهائياً. فصوت الجزائر، مهما حاصروه، يُدوَّن في أرشيف الأمم المتحدة، وتحتفظ به الشعوب لا الشاشات وقد نجحت الجزائر في السنوات الأخيرة في إعادة تدويل الصوت الفلسطيني، والدفاع عن إفريقيا ضد محاولات الاختراق الإسرائيلي، وقيادة جهود لحل أزمات السودان وليبيا والنيجر.
هذا الخطاب المستقل – لا سيما حين يُبث من منصة مفتوحة مثل “يوتيوب” – لا يروق لمن اعتاد على هندسة المشهد الإعلامي والسياسي لصالحه، من عواصم القرار الغربية إلى أبواق عربية متورطة في تغييب الوعي.