استقبال رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون لرئيس مجموعة CMA CGM الفرنسية رودولف سعادة، لم يكن مجرّد لقاء اقتصادي، بل رسالة سياسية واضحة في وجه القوى التي لطالما احتكرت النفوذ في الضفة الجنوبية للمتوسط. الإعلان عن مشاريع استراتيجية في النقل والشحن البحري مع ثالث أكبر شركة عالمية في هذا المجال.
لم يمرّ الاستقبال مرور الكرام في دوائر المال والإعلام المغربية وحتى الفرنسية فسرعان ما تحركت صفحات ومواقع محسوبة على نظام المخزن لتضليل الرأي العام، مستغلة تقريرًا من صحيفة “لوبينيون” الفرنسية، للادعاء بأن الجزائر تخلت عن مشروع ميناء الحمدانية، محاولة تصوير القرار على أنه فشل للعلاقات الجزائرية الصينية وان المشروع كان كذبة او وهم.
لكن الذباب المخزني تناسى بأن النظام المغرب له باع طويل في الترويج لمشاريع وهمية على مدار عقود خلت ف منذ السبعينيات تكررت على ألسنة المسؤولين والوزراء في المغرب ووسائل الإعلام الرسمية أسطوانة مشروع “جسر جبل طارق”، كأنها وعد بالخلاص، أو اختصار سحري لانتقال المغرب من التخلف إلى الازدهار. لكن الحقيقة أن هذا المشروع لم يكن يومًا سوى كذبة كبرى، استُعملت لتخدير الشعب المغربي وتغطية عجز الدولة عن معالجة القضايا الحقيقية.
كذبة لتخدير الشعب المغربي
قبل عقدين من الزمن دفن مشروع جسر أو نفق جبل طارق الذي كان الحديث يتجدّد عنه كلما اشتد الضغط الاجتماعي أو السياسي داخل المغرب وهذا منذ سبعينيات القرن الماضي
كلما تعلق الأمر بالأوضاع الاقتصادية الصعبة، أو بالتوترات الاجتماعية، يُعاد إحياء المشروع كأنما هو “المفتاح السحري” الذي سينقل المغرب إلى مصاف الدول المتقدمة وكان يتم تقديمه في الإعلام الرسمي كدليل على الرؤية الملكية المستقبلية”، بينما في الواقع كانت تقدّم سوى دراسات أولية، وتصريحات نوايا بلا تمويل ولا جدول زمني.
لقد كان هذا المشروع بمثابة وهم يتم تسويقه بذكاء، لا لتحقيقه، بل لاحتوائه. يتم عبره تنويم الشعب المغربي سياسياً ونفسياً، بتغذية فكرة أن البلاد على وشك أن تصبح بوابة أفريقيا إلى أوروبا، بينما تعاني قطاعات أساسية من التعليم والصحة من اختلالات بنيوية خطيرة.
وعلى مدار أكثر من أربعة عقود، من القرن الماضي كان يتكرر في الخطاب السياسي بين الرباط ومدريد، وبين ضفتي البحر المتوسط، الحديث عن مشروع خارق للربط بين أوروبا وأفريقيا عبر مضيق جبل طارق. أحيانًا يُقدَّم على أنه “نفق القرن”، وأحيانًا أخرى يُروَّج له كـ”جسر الحلم”. لكنه في واقع الأمر، يبدو أقرب إلى وهم جيوسياسي تتغذى عليه الخطب والبيانات الرسمية أكثر من كونه مشروعًا قابلاً للتنفيذ.
وهم الوحدة الأوروأفريقية
وكان النظام المغربي بأن المشروع سيربط أوروبا بأفريقيا، لكنه غفل أن الحدود السياسية، والقوانين الجمركية، والاختلالات التنموية، ستبقى جدارًا أعلى من أي جسر. ما نفع الربط الجغرافي إذا كانت السياسات تُبقي أفريقيا على الهامش؟
وفي المجمل، فإن مشروع جسر أو نفق جبل طارق قبل ان يدفن كان أقرب إلى فانتازيا سياسية تُبعث كل بضع سنوات، ثم تعود إلى سُباتها الطويل. إنه لا يعبّر عن طموح حقيقي بقدر ما يعكس حاجة للخطاب الرمزي في غياب مشاريع واقعية ذات جدوى.
وهم التقنية أمام عمق الجيولوجيا
وتجاهل الحالمون بالجسر أو النفق أن مضيق جبل طارق ليس مجرد قناة مائية عادية. إنه أحد أعقد التكوينات الجيولوجية على كوكب الأرض، بعمق يصل إلى أكثر من 1000 متر في بعض مناطقه، ونشاط زلزالي مستمر يجعل أي منشأة تحت مياهه أو فوقها، معرضة لمخاطر جسيمة.
كل الدراسات الجدية منذ الثمانينات، ومنها تقارير مشتركة بين المغرب وإسبانيا، خلصت إلى أن بناء جسر تقليدي فوق المضيق أمر شبه مستحيل بالتقنيات المتوفرة حاليًا. أما النفق، فمكلف بشكل غير مسبوق، ويحتاج إلى عشرات السنين من العمل والاستقرار السياسي والاقتصادي، وهي شروط غير مضمونة.
تكلفة تتجاوز الخيال
تقديرات تكلفة المشروع، وفق دراسات مختلفة، تتراوح بين 20 و50 مليار دولار، مع احتمال تضاعفها بسبب الظروف الجيولوجية. هذا الرقم لا يبدو منطقيًا في ظل أولويات تنموية ملحة في المغرب من جهة، وعدم استعداد الاتحاد الأوروبي لتحمل عبء بهذا الحجم في ظل أزمات اقتصادية متكررة من جهة أخرى.