الراي نيوز – بتاريخ 13 أكتوبر 2022، وقّعت الفصائل الفلسطينية الـ 14 في الجزائر العاصمة اتفاقا لإنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة وإعطاء دفع للقضية الفلسطينية على الصعيد الإقليمي والدولي، وفي هذا التاريخ، تكون 15 سنة قد انقضت عن عمر اتفاق مكة الذي رعاه العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2007، أما الإنقسام الفلسطيني فعمره الآن ناهز الـ 30 سنة منذ اتفاق أوسلو 1993.
وبين التاريخين (2007-2022) وقعت الفصائل الفلسطينية العديد من الإتفاقات لكن كلها آلت إلى الفشل، ويبدو أن اتفاق الجزائر سيكون آخر الإتفاقات وأثمنها، ويتعين على الفلسطينيين استغلال الفرصة، وإلا لا يلومون في المستقبل إلا أنفسهم.
اختراق الرئيس
في البداية، كان لقاء الجزائر برعاية شخصية من الرئيس عبد المجيد تبون، الذي اقترح الفكرة على الرئيس محمود عباس خلال زيارته للجزائر شهر ديسمبر 2021، واتضح حرص الرئيس تبون على نجاح اجتماع الجزائر من خلال قيامه بزيارة “مجاملة” للمشاركين خلال اجتماعاهم من أجل “تشجيعهم” على تجاوز الخلافات من أجل القضية الأسمى والمركزية التي خسرت العديد من المكاسب بسبب الإنقسامات والخلافات.
ومن خلال بنود الإتفاق التسعة، أكدت الفصائل الفلسطينية على بعض المبادئ الأساسية للمصالحة منها أهمية الوحدة الوطنية كأساس للصمود والتصدي ومقاومة الاحتلال، واعتبر المجتمعون منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، واتفقت على تكريس مبدأ الشراكة السياسية بين مختلف القوى الوطنية الفلسطينية.
أما عن آليات تحقيق المصالحة، فقد اتفقت الفصائل على انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني وانتخابات عامة رئاسية وتشريعية خلال مدة أقصاها عام واحد من تاريخ التوقيع على هذا الإعلان.
أما الإشراف، فلن يكون لدولة واحدة كما حدث خلال الـ 15 سنة الأخيرة، بل يكون “عربيا” ستفرزه القمة العربية المقررة في الجزائر يومي 1و2 نوفمبر 2022.
والأهم من ذلك، تضمن اتفاق الجزائر جوانب أخلاقية، حيث تعهدت الفصائل الفلسطينية، على تحقيق الوحدة الوطنية والالتفاف حول برنامج وطني كفاحي جامع لكل مكونات الشعب الفلسطيني. والتزامهم بتطوير المقاومة الشعبية وتوسيعها وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة بأشكالها كافة.
هذا الإتفاق لقي ترحيبا دوليا واسعا عربيا وإسلاميا على وجه الخصوص لأنهم أصحاب القضية، وبذلك يكون الرئيس تبون قد أنجز اختراقا هاما لصالح القضية الفلسطينية، كما سيتم شرحه في ثنايا هذا المقال.
خلفيات الإنقسام
ظلت حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية مهيمنتين على الساحة السياسية الفلسطينية إلى غاية 1987 عندما انطلقت الإنتفاضة الفلسطينية التي أدت إلى نشأة حركة حماس كحركة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وفي شهر سبتمبر 1993 وقعت حركة فتح على اتفاقيات أوسلو، وبموجبها نددت منظمة التحرير الفلسطينية رسميا بالمقاومة المسلحة. وقابلتها حماس برفض الاعتراف بإسرائيل وعارضت اتفاقات أوسلو والاتفاقات اللاحقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
ومنذ ذلك الحين، تتهم حماس السلطة الفلسطينية بالسعي للقضاء عليها بتحريض من المجتمع الدولي، خاصة بعد وفاة الزعيم ياسر عرفات. ويعتبر ذلك اساس الخلافات.
ثم أدت الانتخابات التشريعية لعام 2006 إلى انتصار حركة حماس التي تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي منظمة إرهابية، ولم تعترف حركة فتح والمجتمع الدولي بذلك الإنتصار.
وفي عام 2007، اندلعت اشتباكات دامية بين الحركتين، ما أدى إلى ولادة نظامين سياسيين منفصلين: الأول تقوده السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967 ويقطنها 2,9 مليون فلسطيني، والثاني تقوده حماس في قطاع غزة الذي يقطنه 2,3 مليون فلسطيني.
وبسبب موقف حماس الرافض للاعتراف بإسرائيل وإدانتها للمقاومة المسلحة عملت إسرائيل ومن ورائه عدة دول غربية على إفشال كل محاولات المصالحة بين فتح وحماس، وضغطت علنا على محمود عباس لرفض المصالحة وعرقلتها.
“إعلان الجزائر” بين اتفاق مكة واتفاق الدوحة
سبق للفصائل الفلسطينية التوقيع على عدة اتفاقات خلال الـ 15 سنة الأخيرة، بين حركتي فتح وحماس في العديد من المرات أبرزها عام 2007 حيث تم التوقيع على اتفاق مكة، ثم تم عام 2012 التوقيع على اتفاق الدوحة، وتم التوقيع أيضا على عدة اتفاقات في القاهرة، وحدثت لقاءات وتفاهمات في اسطنبول، وحتى في غزة فيما يسمى “اتفاق الشاطئ” في بيت اسماعيل هنية.
وقد وقع اتفاق مكة بين حماس وفتح يوم 8 فبراير 2007 وتم الإتفاق على إيقاف أعمال الأقتتال الداخلي وتشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن الإتفاق انهار وأصبحت السلطة الوطنية تتحكم في الضفة وحركة حماس في غزة.
ولما فشل اتفاق مكة انتقل الهم الفلسطيني من السعودية إلى قطر، أين تم توقيع اتفاق الدوحة شهر فبراير 2012 وتم التصديق عليه في القاهرة شهر مايو 2012. ونص اتفاق الدوحة، مثل اتفاق مكة على عدة قرارات رئيسية منها التأكيد على الاستمرار في خطوات تفعيل وتطوير منظمة التحرير، تشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطيني من كفاءات مهنية مستقلة برئاسة محمود عباس، تتمثل مهمتها تسهيل تنظيم الانتخابات الرئاسية والتشريعية والبدء في إعمار قطاع غزة.
لكن اتفاق الدوحة أيضا فشل في تحقيق المشاركة السياسية ولم الشمل بعد مقاطعة حركة حماس الانتخابات المحلية الفلسطينية لعام 2012 .
اتفاقات أخرى فاشلة
يمكن اعتبار اتفاق مكة والدوحة أوائل اتفاقات بين حركة فتح وحماس، ويعتبر اتفاق الجزائر أول وأهم اتفاق يجمع كل الفصائل الفلسطينية. لكن بين اتفاق مكة والدوحة والجزائر شهدت القاهرة عدة لقاءات واتفاقات بين الفصائل الفلسطينية لكنها أيضا فشلت، مثل اتفاق يناير 2013 حيث تم الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية المختلفة على الإعلان عن حكومة فلسطينية جديدة وعن موعد الانتخابات. كذلك فشل اتفاق القاهرة يوم 12 أكتوبر 2017، حين توصلت فتح وحماس إلى اتفاق بـ”تمكين حكومة الوفاق برئاسة رامي الحمد الله من تولي كافة المسؤوليات في قطاع غزة، وأن يتولى الحرس الرئاسي الإشراف على المعابر ومعبر رفح الحدودي مع مصر.”
الهم الفلسطيني من الخليج والقاهرة إلى بلد الثورة والشهداء
بعد فشل اتفاق مكة والدوحة وغيرهما، حملت الجزائر الهم الفلسطيني، عشية القمة العربية المقررة يومي 1و2 نوفمبر 2022، ووقعت الفصائل على إلإعلان الجزائر الذي يتضمن 9 بنود.
ومن حيث القرارات، يلاحظ أن اتفاق مكة جاء بسبب الإقتتال بين فتح وحمس مباشرة بعد نتائج الإنتخابات التشريعية لعام 2006 التي فازت بها حركة حماس. كما أن اتفاق الدوحة كان همه الأساسي تنظيم الإنتخابات وتجاوز الخلافات.
ومن بين نقائص اتفاق مكة واتفاق الدوحة أنه تم بين حركة فتح وحماس، وأن الفصائل الأخرى لم تشارك فيه.
وبالتالي فإنه تقريبا تضمن اتفاق الجزائر نفس البنود من أجل لم الشمل الفلسطيني، مع فارق آخر يتمثل في “تشديد إعلان الجزائر في موضعين على أن منظمة التحرير هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني.”
10 عوامل لنجاح اتفاق الجزائر
بناء على ما سبق شرحه، يمكن القول أنه توفرت عدة عوامل مشجعة على نجاح “إعلان الجزائر” في لم الشمل الفلسطيني.
1 – البعد الإستراتيجي لإعلان الجزائر
إن قراءة متأنية لبيان الجزائرـ تجعلنا نستخلص أنه ذو بعد استراتيجي، حيث، ركز على الوحدة ولم الشمل من أجل تعزيز المقاومة وصولا لبناء الدولة الفلسطينية المستقلة في حدود 67 عاصمتها القدس.
2 – “عدد الفصائل” المشاركة يعكس “قوة” الإتفاق
إن الفرق الأساسي بين الإتفاقات السابقة واتفاق الجزائر هو أن الإتفاقات السابقة كانت بين حركتي فتح وحماس تحديدا، تتوسع في بعض الأحيان، لكن اتفاق الجزائر شاركت فيه كل الفصائل تقريبا البالغ عددها 14 فصيلا، مما يعطي “إعلان الجزائر” قوة أكبر من الإتفاقات السابقة.
3- الجزائر ليس لديها أجندة مع الفصائل
ومن عوامل قوة اتفاق الجزائر بين الفصائل الفلسطينية، هو أن الجزائر ليس لديها أجندة سياسية مع أي فصيل، فهي دعمت السلطة الفلسطينية بحصتها المتفق عليها في الجامعة العربية، وأضافت إليها بين الحين والآخر دعما ماديا بمناسبات مختلفة، كما دعمت غزة لتجاوز الأوضاع المزرية نتيجة الحرب عليها من طرف العدو الصهيوني.
4- الإشراف عربي وليس جزائريا
والأكثر مما سبق، أن اتفاق الجزائر سيحظى بإشراف عربي على تنفيذه، وتكون الجزائر ضمن المجموعة التي ستكلفها القمة العربية بذلك، وتم اقتراح الجزائر من طرف الفصائل لهذه العضوية، وبذلك لن يبقى أي مجال للشك أو للحساسسية التي تحدثت عنها بعض الصحف العربية التي قالت أن الجزائر تريد سحب البساط من مصر والدوحة وغيرهما.
5- اتفاق الجزائر عمره سنة من التشاور
بالإضافة إلى ما سبق، يعتبر اتفاق الجزائر ثمرة عمل “قرابة سنة كاملة” حيث بدأ في نهاية عام 2021 عندما كانت القمة العربية مقررة شهر مارس 2022، ومهد الرئيس تبون لنجاحه عندما جمع في الجزائر العاصمة كلا من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية خلال احتفالات الجزائر بذكرى عيد الإستقلال يوم 5 يوليو 2022، واعتبر ذلك اللقاء “تاريخيا”.
وكان الرئيس محمود عباس قد زار الجزائر في ديسمبر 2021، وحينها اقترح الرئيس تبون استضافة الجزائر مؤتمراً للمصالحة الفلسطينية يسبق القمة العربيةـ فوافق محمود عباس وأعلنت الفصائل موافقتها تباعا.
ومعنى هذا، أن الإتفاق يكون قد ولد “ناضجا” فهو ليس وليد ظرف طارئ، مثل اتفاق مكة الذي جاء نتيجة لاندلاع اشتباكات مسلحة بين فتح وحماس، أو اتفاق الدوحة الذي جاء بسبب الفشل في تشكيل حكومة.
6- الإستراتيجي أهم من التاكتيكي
في ذات سياق، لم يتم التطرق في اجتماع الجزائر لمسألة تشكيل حكومة الوحدة الفلسطينية، لأنها قضية خلافية قد تفجر الإتفاق، وفي ذات الوقت فإن الإنتخابات المقررة، هي أهم من مناقشة تشكيل الحكومة في الوقت الراهن، حيث سيتم بالضرورة تشكيل حكومة جديدة بعد الإنتخابات المقررة بعد سنة من الآن، وبالتالي تم تأجيل المسألة التاكتيكية لصالح المسألة الإستراتيجية، المتمثلة في “الوحدة من أجل التحرر”.
7- تراجع مكانة القضية الفلسطينية
ولأن الانقسام الفلسطيني طال أمده (15 عاما كما قالت بعض الفصائل لكنه في الواقع عمره 30 سنة) فقد تراجعت مكانة القضية الفلسطينية عند العرب أولا وعلى الصعيد الدولي ثانيا، فعلى الصعيد العربي أصبح التطبيع “مفخرة” وبصوت “جهور” وارتفع عدد الدول العربية المطبعة مع إسرائيل إلى 6 دول، والأخطر ما في الأمر، أن التطبيع لم يتوقف عند الشق الدبلوماسي، بل امتد للشق الإقتصادي والعسكري، وبذلك خسرت القضية الفلسطينية العديد من المكتسبات التي تحققت قبل أوسلو 1993.
8- استمرار إسرائيل في القمع والقتل والتشريد والإعتقال وبناء المستوطنات
بمقابل ما سبق قوله، تواصل إسرائيل حصد نتائج اتفاق أوسلو من جهة، وحصد نتائج الإنقسام الفلسطيني من جهة أخرى.
فمنذ عام 1993 تاريخ التوقيع على اتفاق أوسلو، لم يحقق الفلسطينيون أي نتيجة، بل خسروا كل المكاسب تقريبا وأصبحوا محل اتهام بسبب ما حصل لقضيتهم، أما إسرائيل فضاعفت بناء المستوطنات التي قال عنها مهندس اتفاق أوسلو محمود عباس (أنظر كتابه : طريق أوسلو) :” أنه لم يعد يعرف أين هي المستوطنات.. إنها موجودة في كل مكان”، وشنت إسرائيل عدة حروب على غزة، كل سنتين حرب تقريبا، وترتكب عدة اغتيالات واعتقالات وهدم البيوت وغيرها من الجرائم.
وبالتالي لم يعد ممكنا مواصلة هذا الإنقسام، إذا أراد الفلسطينيون الحصول على “دعم عربي قوي” وتعاطف ودعم دوليين أيضا.
9– استفحال الإنتفاضة خارج غزة
لابد من الملاحظة أيضا، أن اتفاق الجزائر جاء في ظروف فلسطينية مغايرة لكنها خطيرة تتمثل في استمرار الإنقسام الفلسطيني واستمرار العدوان الصهيوني على غزة، مع اشتداد المقاومة خارج قطاع غزة، خاصة بالضفة الغربية والقدس ما يتطلب من جميع الفصائل تحمل مسؤوليتها، وإلا سيأتي اليوم الذي يتمرد فيه الشعب الفلسطيني على الفصائل والسلطة معا، ويشكل تنظيما جديدا يحمل لواء التحرر.
10– ظرف دولي مشجع
أضف إلى ما سبق، أن الظروف التي تم فيه التوقيع على إتفاق الجزائر، والمتمثلة أساسا في حرب روسيا على أوكرانيا، حيث انحازت إسرائيل للغرب ضد روسيا، وتدهورت العلاقة بين موسكو وتل أبيب، يعتبر عامل مشجع على الوحدة وفرصة لتعزيز المقاومة، ففي حالة ما إذا انتصرت موسكو في الحرب فإن مواقع الفلسطينيين ستعزز إذا عرف الفلسطينيون استغلال الفرصة.
وهكذا، منحت الجزائر للفلسطينيين فرصة ذهبية جديدة لـ “لم شملهم”، والإستفادة من التجربة الجزائرية في الثورة والتحرر، حيث كانت “جبهة التحرير الوطني” هي الصوت الوحيد للجزائر، وذابت فيها كل الأحزاب التي كانت قبل الثورة.
خاتمة: على الفلسطينيين أن يختاروا بين “فلسطين” وبين “إسرائيل”
صراحة، رغم الإشادة الدولية والفلسطينية بالإتفاق، فإنه من الصعب جدا على الفلسطينيين تنفيذ بنود الإتفاق، بدون حصول إجماع عربي وضغط عربي، المنتظر خلال القمة العربية، لكن هناك فرصة لنجاحه، إذا تجاوز القادة الفلسطينيون التجاذبات الإقليمية والدولية، وتجاوزوا الولاءات للخارج.
كما تعمل إسرائيل كل ما في وسعها لإفشال المصالحة وتنظيم الإنتخابات، ففي عام 2011 مثلا أعلن مسؤول إسرائيلي أن إسرائيل سوف تقطع علاقاتها مع السلطة الوطنية الفلسطينية إذا أشركت حماس في الحكومة، وهذا يعتبر من صميم اتفاق مكة والدوحة، ووصل الأمر برئيس وزراء الكيان الصهيوني حينها بن يامين نتنياهو إلى قول مقولته الشهيرة :”على عباس أن يختار بين السلام مع إسرائيل والسلام مع الحماس”.
لذلك نقول اليوم، على الفلسطينيين أن يختاروا بين فلسطين وبين إسرائيل، فهي المستفيد الوحيد من الإنقسام. والتاريخ لا يرحم.