هناك الكثير من الظواهر الناتجة عن ثورة الاتصال، من أهمها الدور الذي أصبح يقوم به المؤثرون في تدفق المعلومات والمعرفة، فهذه الظاهرة فرضت على علماء الاتصال والإعلام والسياسة والاجتماع والقيادة تطوير نظريات علمية تواجه التحديات الجديدة في بيئة الاتصال الرقمية.
ذلك أن المؤثرين يقومون بدور فاعل في إنتاج المضمون ونشره عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبحوا يشكلون قوة للدول والمجتمعات والثقافات التي يعبرون عنها ويشكلون صورتها الذهنية ويساهمون في تشكيل الرأي العام.
إن إغراق الجمهور في التسلية يؤثر في قدرات الأفراد على الابتكار وإنتاج الأفكار الجديدة والتعلم والتعليم ونشر المعرفة وتحقيق التنمية والتقدم
قوة جديدة في العالم الافتراضي
إن قوة المؤثرين في البيئة الاتصالية تساهم في بناء المستقبل، فهم يقومون بإنتاج نوعية من المعرفة تشبع احتياجات الجمهور الذي يعتمد على وسائل الإعلام الجديد، ويستخدمون في إنتاجها الأساليب التي تتناسب مع وسائل التواصل الاجتماعي، مثل يوتيوب وتيك توك وفيسبوك وتويتر وإنستغرام وتليغرام.
تمكن الكثير من صناع المضمون ومنتجي المعرفة الذين يستخدمون هذه الوسائل من جذب ملايين المتابعين، وأصبحت لديهم قواعد واسعة من المعجبين، لكن ما الذي يجذب الجمهور لمحتوى معين؟ وما مواصفات المضمون وأشكال تقديمه؟ وما علاقته بالشخصيات التي تقدمه؟
هذا الشكل من الأسئلة ما زال يحتاج إلى دراسات متعمقة للإجابة عنها، فهذه الدراسات يمكن أن تساهم في زيادة قدرات الدول على استخدام المؤثرين لبناء قوتها الإعلامية والثقافية والتأثير على الرأي العام داخل الدولة وخارجها.
إغراق المجال العام بالمضمون الترفيهي
هناك الكثير من المؤشرات على إغراق المؤثرين الجماهير بأنواع مختلفة من المضمون الترفيهي، لكن هذا المضمون يحمل الكثير من المخاطر، حيث إن زيادته تؤدي بشكل مباشر لتناقص الاهتمام بالمشاركة السياسية والشؤون العامة ومناقشة القضايا الجادة، فتكون النتيجة المباشرة لذلك هي انهيار الديمقراطية وتناقص قوة الدول.
إن إغراق الجمهور في التسلية يؤثر في قدرات الأفراد على الابتكار وإنتاج الأفكار الجديدة والتعلم والتعليم ونشر المعرفة وتحقيق التنمية والتقدم.
كيف يمكن مواجهة طوفان التسلية؟
يمكن مواجهة هذا الطوفان من التسلية باستخدام شبكة من المؤثرين الذين يقومون بنشر المعرفة التي تدفع الناس إلى الكفاح لبناء مجتمعات المعرفة.
لذلك، فإن الدول التي تريد أن تبني قوتها ومكانتها خلال العقد القادم يجب أن تفكر في كيف يمكن أن تستخدم المؤثرين لنشر المعرفة وتعليم الناس وقيادة الشعوب لتحقيق الحرية والديمقراطية وتحسين جودة الحياة بأفكار جديدة.
اكتشاف المؤثرين واستخدامهم
هناك الكثير ممن يمكن استخدامهم كمؤثرين على شبكة الإنترنت، لكن هؤلاء يجب أن تعمل الدول على اكتشافهم وتنمية مهاراتهم وتعليمهم أساليب إنتاج المضمون الذي يتناسب مع الوسائل الجديدة ويشبع احتياجات الجماهير واستخدامهم لنشر المعرفة والثقافة وبناء قوة الدول.
إن الدول تتعرض للكثير من المخاطر والتحديات، لكن ثورة الاتصال يمكن أن تفتح أمامها مجالات لبناء القوة الإعلامية والسياسية، لذلك فإن الدولة التي تريد أن يكون لها دور فاعل في العالم يجب أن تبني شبكة من المؤثرين الذين ينقلون المعرفة والثقافة عبر الإنترنت ويبنون صورتها الذهنية وسمعتها.
المؤثرون والابتكار
ولأن الدول التي يمكن أن تحقق التقدم في القرن الـ21 هي التي تشجع عملية الابتكار وإنتاج الأفكار الجديدة وتطوير قدرات الأفراد على التعلم والتعليم فإن المؤثرين عبر شبكة الإنترنت يمكن أن يقوموا بدور فاعل في توجيه الأفراد لاكتشاف مواهبهم وتفعيل طاقاتهم وتحسين أنشطتهم والبحث عن المعرفة التي تساعد الإنسان في الحصول على معنى لحياته.
وهذا يفتح المجال لتقديم نوعية جديدة من المؤثرين على الشبكة، ينتجون مضمونا لا يهدف إلى التسلية والترفيه، لكنه يمكن أن يشبع احتياجات الجماهير للمتعة المعرفية والثقافية، ويحفز الأفراد على القيادة والتغيير والابتكار والكفاح.
هل يجد هؤلاء المؤثرون مكانا؟
إن الإنسانية تحتاج إلى هذه النوعية من المؤثرين الذين يمكن أن يحققوا التوازن بين التسلية والمضمون الذي يشبع حاجة الناس للمعرفة التي توفر معنى لحياتهم.
من المؤكد أن التسلية أصبحت متوفرة على الشبكة العالمية، ومعظم الإنتاج الفني المسلي يعتمد على إشباع الاحتياجات المادية ويركز على الرقص والغناء واستخدام الأجساد العارية والإيحاءات الجنسية.
لذلك، فإن ملايين الناس يحتاجون إلى مضمون متميز يساعدهم على القيام بدورهم المجتمعي ووظيفتهم الحضارية والإنسانية، لكن هل يمكن أن تهتم الدول بالبحث عن المؤثرين الذين يمكن أن يقدموا هذا المضمون المتميز القائم على المعرفة ومناقشة الشؤون العامة؟!
إن ذلك يشكل نقطة الانطلاق لبناء القوة الإعلامية والمعرفية لدول تملك ثقافة متميزة مثل الدول العربية.
شبكة من المؤثرين الجدد
إن الدولة التي تريد أن تبني قوتها يجب أن تهتم بالبحث عن الوسائل التي تمكنها من تعليم شبابها فنون التأثير وإنتاج المضمون والوعي بالهوية والثقافة والتاريخ والحضارة، فهذه الشبكة من المؤثرين الجدد يمكن تأهيلها في الجامعات عن طريق تقديم مقررات دراسية عامة لكل الطلاب الذين يدرسون في الجامعات بهدف تحفيزهم على أن يصبحوا منتجين للمعرفة وصناعا للمضمون الذي يمكن أن يجذب الجماهير في تخصصات مختلفة.
لكن ذلك لا يغني عن تصميم برامج علمية متخصصة تهدف إلى تأهيل كوادر قادرة على إنتاج مضمون يشبع الاحتياجات المعرفية المختلفة للجماهير بأساليب مشوقة تجذب الانتباه.
اكتشاف المستقبل
هذه البرامج العلمية الجديدة في الجامعات يمكن أن تساهم في بناء قوة الدول الاتصالية والمعرفية في عالم تتم إدارة الصراع فيه باستخدام الأفكار الجديدة والابتكارات والتأثير على الجماهير وتشكيل الرأي العام.
وفي الوقت نفسه، يجب أن تقوم الجامعات بدورها في اكتشاف المستقبل وما يمكن أن يحمله من مخاطر وفرص، فصناعة التسلية أغرقت العالم بمضمون أدى إلى زيادة التفاهة والسطحية، ودفع الأفراد إلى الاهتمام بالحصول على المتعة واللذة والبحث عن حلول فردية لمشكلاتهم، وهذا سيؤدي إلى فرض الثقافة الاستهلاكية وإضعاف المجتمعات والثقافات والحضارات.
المؤثرون وبناء مجتمع المعرفة
إن المستقبل يعتمد على استثمار الدول ثقافتها وإمكانياتها في بناء المجتمعات المعرفية، فما دور المؤثرين في ذلك؟
لكي تتمكن الدولة من القيام بدور فاعل في تدفق المعرفة يجب أن تقوم باكتشاف مواهب أفرادها في إنتاج المضمون والأفكار الجديدة ونشر المعرفة، وبهؤلاء الأفراد يمكن أن تبني شبكة من المؤثرين تحقق لها في المستقبل مكانة مهمة وتبني صورتها على أساس أنها دولة تقدم إنجازات حضارية.
كما أن شبكة المؤثرين يمكن أن تقوم بدور مهم في بناء مجتمع المعرفة، لذلك فإن الجامعات يمكن تقوم بدور مجتمعي ووظيفة حضارية عندما تقدم برامج جديدة تهدف إلى إعداد المؤثرين وتأهيلهم وتحفيز الطلاب على اكتشاف مواهبهم وميزاتهم الشخصية وقدراتهم على التأثير ونقل المعرفة.
كما أن بناء شبكة المؤثرين باستخدام الأساليب العلمية في الجامعات يمكن أن يؤدي إلى زيادة النشاط المجتمعي، فينتفض الناس بحثا عن المعرفة والمعلومات التي تؤهلهم للقيادة والمشاركة في إدارة شؤون المجتمع وتحقيق الديمقراطية.
تغيير النظرة للجمهور
إن بناء شبكة المؤثرين يجب أن يتم بناء على دراسة خصائص الجمهور واحتياجاته، وتغيير النظرة التي روجت لها الشركات الرأسمالية التي سيطرت على وسائل الإعلام، والتي تقوم على أن الجمهور يهتم بالرياضة والفضائح والجنس، فالجمهور يختلف طبقا للمجتمعات والحضارات والثقافات وله احتياجات متنوعة يجب أن يتم العمل على اكتشافها لبناء صناعة جديدة للمضمون.
هناك الكثير من فئات الجمهور التي تحتاج إلى المعرفة وتتطلع للقيام بدور فاعل في المجتمع وتكافح لتحقيق أهداف عظيمة، لكن هذه الفئات لا يتم إشباع احتياجاتها وتحتاج إلى شبكة جديدة من المؤثرين الذين يشبعون احتياجاتها للمعرفة.
لذلك، فإن الدول يجب أن تهتم بهذه الفئات من الجماهير، وأن تعد شبكة المؤثرين التي يمكن أن تشبع احتياجاتها.
وفي الوقت نفسه، يجب أن يعمل المؤثرون على بناء علاقة إيجابية مع الجمهور تقوم على احترام قدراته العقلية والنقدية، فهذا الجمهور يمكن أن يوفر إمكانيات النجاح لمنتجي المضمون الذي يركز على المعرفة عندما يتم تحديد الأهداف بوضوح ويدرك الجمهور هويته.
أساليب الإنتاج
هناك الكثير من الشخصيات التي يمكن أن تقوم بدور فاعل في نشر المعرفة وجذب الجمهور لمتابعتها، لكنها تجهل أساليب إنتاج المضمون الذي يتناسب مع شروط وسائل التواصل الاجتماعي ومتطلباتها، ومعظم هؤلاء من العلماء في الكثير من المجالات العلمية.
هؤلاء يجب أن يتم تطوير قدراتهم على استخدام الأساليب المناسبة لوسائل التواصل الاجتماعي، وهناك أيضا من يجيدون إنتاج المضمون لكنهم يفتقرون إلى القدرات المادية لإنتاج هذا المضمون، فلا يستطيعون توفير المرتبات للمصورين والمخرجين، وهم يقومون بدور مهم في زيادة جاذبية هذا المضمون.
وهذا يعني أن الدول تفقد إمكانيات كبيرة لاستخدام علمائها كمؤثرين، لأنها لا توفر الإمكانيات لهم لإنتاج مضمون يجذب الجماهير.
دور وسائل الإعلام
هناك أيضا دور مهم يمكن أن تقوم به وسائل الإعلام (الصحف وقنوات التلفزيون) في تقديم المؤثرين للجمهور، ذلك أن معظم المؤثرين حصلوا على الشهرة التي مكنتهم من الانطلاق في العالم الافتراضي عن طريق هذه الوسائل.
لذلك، فإن بناء شبكة المؤثرين الذين يمكن أن يبنوا قوة الدول وصورتها ومكانتها العالمية يرتبط بالمحافظة على الصحافة والتلفزيون وزيادة قدرتهما على جذب الجماهير، فهما اللذان يمكن أن يوفرا للمؤثرين إمكانيات الانطلاق وإنتاج المضمون والتأثير.
لذلك، فإن بناء القوة الإعلامية والثقافية للدولة يعتمد على تحقيق التكامل بين وسائل الإعلام واستخدام شبكة المؤثرين لنشر المعرفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
إن المستقبل يحمل الكثير من الوعود لدول تريد أن تبني مكانتها العالمية عن طريق تطوير صناعة المضمون وإقامة المجتمعات المعرفية والتخطيط الإستراتيجي طويل المدى وتكوين شبكة المؤثرين وبناء القوة الإعلامية.
سليمان صالح
أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس 2012