ذات مرة قال لي أحد السياسيين الجزائريين من الذين يدافعون بشراسة عن الحفاظ على علاقات قوية مع مستعمر الأمس، إن أخوف ما يخافه المسؤولون في الجزائر ، هو أن يستيقظ أحدهم في اليوم الموالي ويجد اسمه على صدر صحيفة مثل “لوموند” أو أسبوعية مثل “لكسبريس”، لأنهم يدركون أن ذلك قد يكون مؤشرا على غضب في دواليب صناعة القرار في باريس ضد المسؤول المستهدف.
ويستند هذا الكلام على معطيات مفادها أن المسؤول الذي يرعبه صدور مقال في صحيفة فرنسية، له ما يخاف عليه هناك، ممتلكات او حسابات بنكية وما إلى ذلك، وهو ما يجعله مستعد لبيع البلاد مقابل تفادي استهدافه إعلاميا. ولطالما لعبت السلطات الفرنسية على هذا البعد من أجل الحصول على تنازلات رهيبة في مشاريع اقتصادية أو تجارية أو ثقافية (فرض اللغة الفرنسية كلمة رسمية غير متوجة)، من قبل المسؤول المستهدف.
هذه الاستراتيجية تبناها الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتران، بعد وصوله إلى سدة قصر الإيليزي في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حيث كلف مستشاره الخاص، جاك أتالي، بإعداد قائمة بأسماء المسؤولين الجزائريين في المناصب الحساسة، من أجل ابتزازهم لتكريس الهيمنة على الجزائر في مختلف القطاعات، وقد تأتى له ذلك بداية من فترة حكم الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد.
ويمكن تلمس استراتيجية ميتران التي ورثها عنه الرؤساء الفرنسيون المتعاقبون، من غرس مسؤول عميل في الديوان الوطني المهني للحبوب، على مدار أربعة عقود، لم يكتشف أمره إلا في سنة 2020، بعدما كبد الجزائر العشرات من ملايير الدولارات، ذهبت لشراء قمح فرنسي مغشوش ورديء، فقير من حيث البروتينات، وأغلى بكثير من قمح البحر الأسود الروسي والأوكراني.
ويمكن الإشارة أيضا إلى الجاسوس بوعلام صنصال، الذي زرع في وزارة الصناعة لعقود، وهناك كان يبلغ أسياده في باريس بأي قرار سيادي للنهوض بالقطاع من أجل إفشاله في مهده، وقد بلغت الخيانة مداها بتعيين عبد السلام بوالشوارب وزيرا للصناعة، وهو الذي قاد المفاوضات مع “رونو” من أجل إقامة مصنع وهران، لم تصل نسبة الادماج فيه 4 بالمائة بعد 6 سنوات، في وقت كان يجب أن تصل بعد خمس سنوات فقط إلى 30 بالمائة استنادا إلى كلام وزير الصناعة السابق، فرحات آيت علي.
ومنذ نحو عشرة أشهر ، استعملت فرنسا كل أذرعها، وكان الذراع الإعلامي أول سلاح وظفته بقوة من أجل استعادة نفوذها الضائع عبر تركيع المسؤولي الجزائريين، ولكن من دون جدوى. فقد كان المسؤولون في باريس يعتقدون أن الرفع من منسوب الضخ الاعلامي المركز ضد الجزائر ومسؤوليها، سيحدث الهلع كما كانوا يتوقعونه، إلا أن النتيجة كان معاكسة، وهو تغيير الرعب لموقعه.
وتعبيرا عن حالة اليأس التي انتابت الفرنسيين من ضياع الضغط عبر القوة الناعمة (الاعلام)، فقد وصل عدد المقالات التي كتبتها صحيفة مثل “لوفيغارو” (ذات توجهات يمينة متطرفة)، عن الجزائر في يوم واحد 37 مقالا، وهو ما يبين حالة الجنون التي وصل إليها الاعلام الفرنسي، الذي كان يتحرك وفق خطة محكمة، تدار خيوطها في دهاليز الدولة العميقة في باريس.
اعتبر منظرو الايديولوجية النيو كولونيالية الصمود الجزائري إهانة لعظمة فرنسا، وضياع لهيبتها، إلى درجة عقد اجتماع خاص ترأسه ماكرون في قصر الايليزي خصص لبحث الأزمة مع الجزائر.
فما الذي تغير حتى أصبحت صيحات الاعلام الفرنسي وكأنها في واد سحيق لا تسمع؟
بقلم : الصحفي محمد مسلم