الانخفاض المسجل مؤخرًا في أسعار المواد الاستهلاكية في الجزائر يشكل حدثًا اقتصاديًا لافتًا، يستحق التوقف عنده، لا فقط كمؤشر ظرفي، بل كإشارة إلى تحوّل في استراتيجية الدولة تجاه السوق المحلية.
في سياق دولي مطبوع بالتضخم المتسارع وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، تسجّل الجزائر في الأشهر الأخيرة تطورًا إيجابيًا ، يتمثل في تراجع ملحوظ في أسعار عدد من المواد الاستهلاكية الأساسية، ترافقه مؤشرات رسمية مشجعة على تراجع معدلات التضخم
أرقام رسمية تؤكد الانخفاض
أفاد الديوان الوطني للإحصائيات (ONS) في تقريره الشهري بأن المؤشر العام لأسعار الاستهلاك انخفض بنسبة 2.7% في ماي 2025، مقارنة بشهر أبريل، وهو أكبر تراجع شهري منذ بداية السنة. أما أسعار المواد الغذائية فقد سجلت انخفاضًا بواقع 5.1%، فيما بلغ التراجع في العاصمة الجزائر 2.9%. وحسب تقاير منظمات حماية المستهلك فإن هده الأرقام ستبقى مستقرة للاشهر المقبلة.
صندوق النقد الدولي: تضخم تحت السيطرة
في السياق ذاته، كشف تقرير حديث لـ صندوق النقد الدولي (IMF) أن معدل التضخم السنوي في الجزائر بلغ 4% فقط خلال الفترة الممتدة من يونيو 2024 إلى مايو 2025، مقابل معدلات قاربت 8.2% في 2023.
ويرى الصندوق أن هذه النتائج تعكس توجهاً اقتصادياً واضحاً نحو ضبط السوق وحماية القدرة الشرائية، دون اللجوء إلى إجراءات تقشفية تؤثر على النمو.
تراجع أسعار المواد الاستهلاكية في الجزائر :
البطاطا -17% إنتاج وفير، غياب المضاربة، تحكم أفضل في التوزيع
الخضروات الطازجة -10.1% وفرة موسمية، ضغط أقل على شبكات النقل والتخزين
لحوم الضأن وأحشاؤها -14.8% ركود في الطلب مقابل وفرة في العرض المحلي
القهوة والشاي -23.1% (سنوياً) استقرار في الاستيراد، تعدد العلامات التجارية، زيادة تنافسية المصانع المحلية
العجائن والكسكسي -30% إلى -50% دعم القمح الصلب المحلي، تدخل فعال من الديوان الوطني للحبوب
البقوليات (عدس، حمص…) -11% تقريبًا وفرة في التوريد، دعم لوجستي منتظم من الدواوين
البيض -10% انخفاض أسعار الأعلاف، وتحسن في سلسلة التوزيع
الفواكه الموسمية +11.4% (ارتفاع) إنتاج غير منتظم، ضعف سلاسل التبريد والتوزيع الجهوي
هل نحن أمام تحوّل هيكلي؟
ليس من السهل تفسير تراجع الأسعار في بلدٍ يواجه، كسائر دول العالم، تأثيرات تقلب السوق الدولية. لكن ما حدث في الجزائر يمكن تلخيصه في 4 عوامل أساسية:
وفرة العرض: نتيجة دعم الدولة للإنتاج الفلاحي، واستيراد بعض المواد الأساسية في وقت مبكر لتجنّب الندرة.
الرقابة الميدانية: خاصة خلال شهر رمضان، حيث قامت أجهزة الرقابة بضبط الأسواق ومواجهة المضاربة.
التدخل المؤقت للدواوين الوطنية: مثل الديوان الوطني المهني للحبوب والديوان الجزائري المهني للحليب
كما ساهمت السياسة النقدية التوسعية المدروسة في تهدئة الضغوط التضخمية، دون التسبب في انهيار القدرة الشرائية أو ارتفاع الدين العمومي.
استقرار مرحلي أم بداية تحول؟
رغم أنه من السابق لأوانه الحديث عن تحول هيكلي كامل، إلا أن الأرقام تشير بوضوح إلى:
• تراجع التضخم إلى أدنى مستوياته منذ سنوات.
• تحسن مؤقت في الأسعار بفضل سياسات تدخلية ناجعة.
• بداية إدراك حكومي لأهمية ضبط السوق لا فقط بالمراسيم، بل بالوفرة الفعلية والتنافسية.
يبقى الرهان الآن في تحويل هذه النجاحات الظرفية إلى آليات مستدامة للإنتاج المحلي، وربطها بمناخ استثمار فلاحي وصناعي حديث.
صمت منظمات حماية المستهلك… غياب غير مبرر؟
رغم الانخفاض الملموس في أسعار المواد الاستهلاكية، خاصة الأساسية منها، لوحظ غياب شبه تام لصوت منظمات حماية المستهلك في الجزائر، سواء في شكل بيانات رسمية أو تقييمات ميدانية لما يحدث في الأسواق. وهو أمر يثير تساؤلات مشروعة: هل يعود الصمت إلى غياب أدوات الرصد والتقييم؟ أم إلى غموض في الموقف تجاه السياسات الحكومية الحالية؟
وفي الوقت الذي كان من المفترض أن تلعب فيه هذه المنظمات دورًا تنسيقيًا في نقل صوت المستهلك وتقديم قراءات مستقلة حول تطور الأسعار وجودة المواد، بدا وكأنها خارج السياق تمامًا، ما يجعل الحاجة ملحة لإعادة تفعيل دورها .