في قلب متغيرات دولية عميقة، تعيد تشكيل توازنات الطاقة والتمويل والتحالفات، برزت سردية إعلامية تتكرر على ألسنة بعض الأبواق الإقليمية والدولية: “الجزائر دولة معزولة”.
لكن وراء هذه العبارة المضلّلة إعلاميا تحاول تشويه الجزائر بعد اتخذت مسارًا سياديًا، متعدد الأقطاب، مستقل القرار.
من يروّج للعزلة… ولماذا؟
ما يوصف اليوم بـ”العزلة” ليس سوى محاولة ضغط إعلامي وجيوسياسي تستخدمها دوائر إعلامية مقربة من قوى إقليمية، على رأسها أبواق النظام المخزن بتنسيق غير مباشر مع منصات غربية لا تُخفي توجّسها من الصعود المتدرّج للدور الجزائري. غير أن المتتبع لما يروج على منصات التواصل الاجتماعي خاصة يرى أن أسباب هذه الحملة واضحة:
- رفض الجزائر الانخراط في موجة التطبيع مع الكيان الصهيوني، رغم الضغوط.
- دورها القيادي في الساحل الإفريقي، ورفضها التبعية الأمنية للمحاور الأجنبية.
- صعودها كمنافس طاقوي شرس داخل السوق الأوروبية والأفريقية.
وفي عرف هؤلاء، دولة تُبقي على قرارها السيادي خارج مظلة الإملاءات، تصبح “منبوذة”.
لكن الحقيقة تقول العكس، فـالجزائر معزولة فقط عن التبعية والانصياع، لا عن التفاعل الدولي. الجزائر فعلًا بدأت رحلة العزلة عن التخلف والتبعية الاقتصادية.
عودة أمريكا الطاقوية إلى الجزائر
في خضم الحملة الإعلامية، تعود كبريات الشركات الأمريكية إلى الجزائر بقوة غير مسبوقة:
- “إكسون موبيل” تفاوض للاستثمار في الغاز
- “شيفرون” تفتح ملف مشاريع طويلة الأمد مع سوناطراك.
لماذا؟ لأن الجزائر باتت، بعد الحرب في أوكرانيا، أحد أكثر الموردين الموثوقين في حوض المتوسط، وتملك احتياطات ضخمة من الغاز الصخري والطبيعي، وبنية تحتية قابلة للتوسيع.
هذا الانفتاح الأمريكي ليس مجرد صفقة، بل إقرار بموقع الجزائر الحيوي في خريطة الطاقة الدولية، وهو ما يُفكك عمليًا سردية العزلة.
النمور الآسيوية الصاعدة.. وآسيان
في موازاة الشراكة الأمريكية، تندفع الجزائر بثقة نحو الشرق، وتحديدًا نحو اقتصادات النمور الآسيوية:
- ماليزيا: استثمار يفوق 6 مليارات دولار في الصناعات الثقيلة والبتروكيمياويات عبر مجموعة “ليون”.
- كوريا الجنوبية: تعاون تقني متسارع في قطاع السيارات والطاقة النظيفة.
- إندونيسيا، فيتنام، الفلبين: شراكات قيد التفعيل في الزراعة، التحول الطاقوي، والخدمات اللوجستية.
هذا الانفتاح يتم ضمن إستراتيجية اندماج مدروسة مع رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، في مسعى لتحويل الجزائر إلى محور إنتاجي وتصديري نحو إفريقيا، فضلًا عن طلب دخول الجزائر كمراقب في منظمة شنغهاي.
من شنغهاي.. إلى البريكس
بعيدًا عن التموقع التقليدي ضمن الشراكات الغربية، توسّع الجزائر مجالها الدبلوماسي والمالي عبر الانضمام إلى تكتلات عالمية صاعدة:
- منظمة شنغهاي للتعاون: طلب دخول الجزائر بصفة مراقب يمنحها وزنًا إقليميًا في ملفات الأمن، الطاقة، والبنية التحتية العابرة للحدود.
- بنك البريكس للتنمية: انضمام استراتيجي يُمكّن الجزائر من الوصول إلى تمويل غير مشروط، خارج هيمنة المؤسسات المالية الغربية.
هذه الخطوات تؤكد أن الجزائر لا تبحث عن العزلة، بل عن تحرر تدريجي من التبعية المالية.
لماذا تزعج النهضة الجزائرية بعض العواصم؟
وراء الضجيج الإعلامي، تبرز الحقيقة المؤرقة لكثير من الخصوم: النهضة الاقتصادية الجزائرية بدأت تؤتي ثمارها.
- نمو الناتج الداخلي الخام حسب آخر تقرير للديوان الوطني للإحصائيات حيث توقع الخبراء الوصول إلى 300 مليار دولار ناتج خام سنة 2025.
- تحول الجزائر إلى منصة لتكرير وتصدير الطاقة.
- تحسن مناخ الأعمال بدخول مستثمرين جدد من أمريكا وآسيا ومستثمرين من سلطنة عمان ومصر.
هذه المعطيات لا تروق لعواصم بُنيت قوتها على تبعية الجزائر في الماضي، أو راهنت على عجزها الدائم.
السيادة ليست عزلة… بل اختيار استراتيجي
الجزائر اليوم لا تخضع لابتزاز تطبيعي، ولا تسعى إلى رضا المموّلين، ولا تطلب إذنًا للتموقع في ملفات الطاقة أو الأمن.
إنها تبني مسارًا سياديًا، متعدد الشراكات، متحررًا من الهيمنة الإعلامية والسياسية.
فمن يملك قراره، لا يُعاقب بالعزلة، بل يُستهدف بالتشويه. .