تشهدُ جغرافيا العالم في هذه المرحلة حالة ارتباك استراتيجي يجسدُه تزايد القلق والشعور بالخوف وبانعدام الأمن وعدم الاستقرار، واتساع رقعة الحروب، والإفراط في استعمال العنف والقوة خارج أطر الشرعية الدولية من طرف القوى المهيمنة لفرض أدوات استعمارية جديدة من خلال فرض مفاهيم وأدبيات وممارسات وقوانين و اتفاقيات دولية تناقض موروثات الأمم والشعوب التاريخية أو الأخلاقية أو الدينية أو المجتمعية، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى تزايد تنامي وتيرة الاخطار اللاتماثلية بشكلٍ مخيف و مرعب وهي في أغلب الاحيان غير مرصودة لأجهزة الوقاية من الاخطار ( لأن مصدرها و شكلها و موقعها و توقيتها….الخ مجهول ) ، وبنفس الحدة تتنامى مخاطر أخرى غير خاضعة للرقابة أيضا ولا للتقييد ولا للقدرة على التحصن منها أو المعاقبة لمروجيها، لا سيما ما تعلّق منها بالمخاطر السبريانية والذكاء الإصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي جعلت السلطات التقليدية للدول عاجزة أمامها، مما جعل عدد من الدول تعيد النظر في سياساتها وتموقعاتها وتحالفاتها وأولوياتها… أحيانا بشكل تكتيكي، وأحيانا كثيرة بشكل استراتيجي بحثا توفير الضمانات الدائمة لمصالحها الحيوية والتأمينات الحصينة لأمنها القومي.
وإن هذه الحالة الجديدة مست كل البيئات وكل القوى وكل المشاريع والمحاور والدول دون أن تستثني أحدا، وذلك إما بشكل مباشر أو غير مباشر، وبصفة مؤثرة أو متأثرة أو بالاثنين معا.
ولا شك أن هذا الوضع سيفرض على الجزائر باعتبارها مكونا مهما من مكونات منطقة شمال افريقيا وأحزمتها اللصيقة أن تكثف البحث هي الأخرى عن وسائل لتأمين مستقبلها ومصالحها الحيوية من خلال حسن التموقع في الخارطة التي ستفرضها التغييرات الحاصلة بسبب تزايد المخاطر والتوترات والاستقطاب الناتج عن تدافع المشاريع، ولا ينبغي أبد للجزائر أن تبقى فقط مستمسكة بجماليات مبادئها السياسية وقيمها النضالية رغم تأكيدنا لعدم التفريط فيها في عالم أصبحت فيه العلاقات الدولية تبنى تبعا لمقدرة الدول على تأمين مناطقها ومصالحها الحيوية الحيوية.
وإذا نظرنا إلى الجزائر، وإلى المنطقة بشكل عام، من زاوية التحديات والمخاطر ، فسنجدها تعجُّ بتحديات ومخاطر نعتبر بعضها مخاطر تقليدية ولكن أغلبها مخاطر جديدة وطارئة وغير تقليدية، ممّا يحتّم على صُنّاع القرار في هذه المنطقة كلها ضرورة إعادة تقييمهم للمواقف بشكل جدي وبيقظة استراتيجية، توجبُ على صانع القرار فيها وفي الجزائر بخاصة أن يعيد توجيه علاقات الجزائر الديبلوماسية ، ويحيين العقيدة الدفاعية بالشكل الذي يصب في صيانة الأمن القومي ، ويحمي مصالح الوطن ومصالح شركائه، وقضاياه المبدئية على غرار المبدأ الدائم والداعم لتحرير الاراضي العربية من المحتلين، وعلى رأسها الأراضي الفلسطينية والاقصى الشريف، وحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره، وكذا احترام سيادات الدول وعدم التدخل في شؤونها، أو الإرباك بوحدة شعبها، أو وحدة ترابها.
وسيحاول هذا المقال الإشارة إلى أهم المخاطر المهددة للمنطقة والإقليم على المدى القريب والمتوسط، والتي من أهمها:
أولا: مخاطر نمذجة الدولة الفاشلة في الساحة الليبية:
إن اختلاط الوضع الليبي من التعقيد بمكان بحيث أصبح يصعب معه التكهن بمآلات الامور، بسبب الإرادات التي تريد صناعة نموذج الدولة الفاشلة في المنطقة، وصعوبة الوضع الليبي ليس من جهة الشرعية فقط والتي يفترض أنها تستمد بوسيلة الانتخابات والعودة إلى مبدأ الشرعية الشعبية وحق الشعب في اختيار ممثليه، ولكن من جهة كثرة المتدخلين في الساحة سواء بالطرق المباشرة أو بالطرق غير المباشرة، سواء بألاعيب السياسة أو برنين الأسلحة والرصاص وصناعة الموت والتوترات والفلتان وتشكيل المليشيات وجلب المرتزقة، واختراق السيادة وتأسيس الطائفيات السياسية المرتهنة للمحاور الخارجية التي تتصارع على الساحة الليبية من أجل النفوذ أو من أجل تبادل ساحة حرب هنا بسلام في مجالها الحيوي أو من أجل تأمين مصالح لها عابرة أو دائمة.
ولا ريب أن هذه الحالة الليبية تمثل خطرا حقيقيا على أمن الجزائر وأمن المنطقة والإقليم ، وكذلك تمثل خطرا حقيقيا على عدد من المتدخلين فيها، و اعتقد جازما أن إجراء الانتخابات ليست هو الطريق الذي سيجلب الأمن و الاستقرار و يوحد الوطن و يؤسس لبناء الجماعة الوطنية المتشبثة بالمصلحة العليا للوطن ، اذ إن حالة المليشيات، والانتشار الرهيب للسلاح ، و تكريس الطائفية السياسية ، و الريع النفطي و الصراع على تقاسمه المجتمعي ، وهشاشة المؤسسات او انعدامها، واتساع التناقض وتمزق النسيج المجتمعي ، وتدمير الجيش الليبي واسقاط الدولة و تفكيكها،…كل ذلك إذا أضفنا إليه المحاولات الحثيثة التي قام بها النظام المغربي المدعوم من دول غربية معروفة لاحتضانها بعض الحوارات لشخصيات ليبية وطرحت بشكل علني أن الهدف هو النقاش حول فكرة إقامة دولة ليبية مستقلة في الجنوب الليبي.
ولا شك أن الجزائر ومصر بوصفهما دولتين محوريتين في المنطقة ستكونان أول المتأثرين لتهديدات هذه المخططات التي تحبكها قوى معادية لها تأثير على الساحة الليبية، وأكاد أجزم اليوم بأن شرعية الانتخابات لن تحسم لوحدها شرعية الحكم وشرعية تقاسم الريع، بل ستبقى الحالة الليبية حالة مؤرقة للمنطقة وللاقليم بصفة عامة وللجزائر ومصر وتونس بصفة خاصة.
ثانيا: مخاطر التحالف المغربي ـ الصهيوني:
هناك تشابه كبير بين النظام المغربي ودولة إسرائيل المحتلة من جهة أنهما أنظمة محتلة لأراضي الغير، ويحوز النظام المغربي منذ نشأته على علاقات سرية قديمة مع دولة إسرائيل المحتلة ، ولكنهما في هذه المرحلة الجديدة قد اختاروا الكشف العلني عن تطوير التنسيق القديم بينهما إلى تعاون عسكري وتحالف استخباراتي متقدم أضرّ حتى على مصالح حلفاء المخزن في بعض الدول الأوروبية من خلال عمليات التجسس الأخيرة، وإضافة إلى التعاون الاقتصادي هناك زيادة في مستوى التعاون الاجتماعي من خلال تسهيل تجنيس مزدوجي الجنسية، وعودة يهود المغرب الى موطنهم الاصلي بتعداد مئات الالاف، علاوة على أضرار هذا التوجه على أمن شعوب المنطقة ، وتهديده لأمن الجزائر وسلامة ترابها ، ومحالته جعل المغرب نقطة ارتكاز للانطلاق نحو ارباك افريقيا، فإنه أيضا يشكل تهديدا مباشرا لتماسك الشعب المغربي من خلال صهينة الحياة المغربية رغم مقاومة الشعب المغربي البطل لهذا الخطر الداهم على جميع الاصعدة.
واعتقد أن المستهدف الأساسي من هذا التنسيق هو الجيش الجزائري الذي تحاول بعض الدوائر تفكيكه وتعطيل مشاريع تطوير احترافيته، لأنه جيش يحوز على عقيدة دفاعية متميزة جعلته في كل الحروب العربية السابقة على مشارف ارض فلسطين المباركة يقف إلى جانب أشقائه العرب وبتضحيات كبيرة.
إنّ الجيش الجزائري بسبب هذه الخلفيات أصبح محل استهداف بكلّ الوسائل المرئية أو غير المرئية من دولة الاحتلال الاسرائيلي، وخاصة بعدما وقعت دول الطوق العربية على اتفاقيات وقف إطلاق النار، والدولة الجزائرية لم تكن أبدا طرفا في تلك الاتفاقيات.
وقد ازدادت التحرشات بالجيش الجزائري بعد عزم الجزائر أن تكون دولة حاضنة للقضايا العادلة وخاصة قضية الشعب الفلسطيني القضية المركزية وأم القضايا وكذا قضية الشعب الصحراوي ، وأصبحت بسبب ذلك ـ وبسبب جهود الجزائر في رأب الصدع الفلسطيني ولم شمل فصائله التي أطلقها رئيس الجمهورية، وتهجم بشكل صريح على الدول المطبعة ووصفها بالمهرولة جعلت من الجزائر دولة مواجهة مباشرة مع المحتل الاسرائيلي الذي أطلق وزيرها للخارجية تصريحات ضد السيادة الجزائرية من الأراضي المغربية، ناهيك عن الغدر المتكرر من النظام المغربي نفسه لوحدة الشعب والتراب والسيادة الجزائرية والتي واجهها الجيش الجزائري ومختلف قواه الامنية بالقوى المكافئة في مراحلة متعددة.
وإن تطور هذه الأوضاع والتهديدات أصبح يوجب على الدولة الجزائرية إعادة تقييم للوضع بالاستعداد الحقيقي لكلّ المخاطر المحتملة، والتي يجب أن ينظر إليها بشكل جدي، مما يحتم على الجزائر إعادة النظر في عقيدتها الدفاعية وفي علاقاتها الدبلوماسية بما فيها الاقتصادية. صوتاً لمصالحها الحيوية ومنها القومي وكذا لجيرانها في امتدادها الطبيعي والاستراتيجي.
ثالثا: مخاطر إرباك الاستقرار بالشرقية تونس:
بغض النظر عن توصيف الحالة التونسية، والحكم عليها هل هي ضمن السياق الدستوري و القانوني، أم هي حالة تراجع وانقلاب أم هي حالة انفراد بالسلطة والحكم أم هي حالة تصحيح لوضع سابق غير قابل للاستمرار، كل تلك الأوصاف ليس محل بحثنا هنا، وإنما الذي يهمنا هنا هو تقييم مخاطر تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بتونس، ومعرفة الأطراف المستفيدة من زيادة تعقيد الوضع وتدمير مكتسبات المشاركة السياسية في تونس التي نعتبرها إحدى ضمانات الاستقرار، فلمصالحة من ستكون مآلات الفوضى التي قد تربك تونس وتتخطاها إلى الجزائر والمنطقة المغاربية وشمال إفريقيا.
كل هذا يفرض على الدولة الجزائرية حالة من اليقظة العالية التي توجب ضرورة الاصطفاف إلى جانب الشعب التونسي باعتباره شعبا شقيقا له علينا حقوق الدعم وواجبات النصرة، ومد يد العون من أجل تجاوز صعوباته هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن أي فلتان في الساحة التونسية لا قدر الله، سوف تكون انعكاساته خطيرة ومباشرة على أمن الجزائر.
وفي قراءتي المتواضعة لا استبعد أن تكون الحالة التونسية هي معزولة عن الوضع الليبي او الحالة الطارئة لدى النظام المغربي او الحالات المتكررة لخلق فوضى في مالي او حالة الابتزاز المستمر على موريتانيا لدفعها نحو التطبيع او غيرها من الاوضاع الاخرى التي يجب ان تكون على طاولة البحث والتمحيص والدراسة ولا يمكن استبعاد اي فاعل من الفواعل
وواهم من يعتقد بأن تلك الظواهر هي حالات معزولة عن بعضها ولا يربطها رابط، ثم ان حالة من الصدام متوقعة بين قاعدة أكبر فصيل سياسي تونسي وبين اجهزة الدولة، اعتقد من يهمه الفوضى في منطقتنا يسعى جاهدا للتعجيل بها واذكاء نار الفتنة، وهذا ما لا نتمناه ويفرض علينا كدولة او كنخب أن نسعى جميعا كل حسب قدرته وعلاقاته لتقريب وجهات النظر المتباعدة لتجنب ذلك السيناريو المرعب،
ولكن في تحليلي اذا لم يكن هناك حل سريع للازمة فإن عديد من المتدخلين في الساحة الليبية والتي تتربص بأمننا واستقرار دولتنا وترفض حالة استقلالية القرار الجزائري ، فبإشارة بسيطة لميليشياتها المتواجدة على أرض ليبيا الشقيقة بتنفيذ عملية أو عمليتين في الساحة التونسية ، و تكون أبواقها الإعلامية جاهزة لإلصاق ذلك العمل الارهابي بهذا الطرف أو ذاك الطرف من أطراف الساحة التونسية لهو أمر كاف لإشعال الساحة ودخولها في حالة الصدام بين مكونات الوطن من جهة و بين بعض المكونات و بين الدولة و مؤسساتها ، و حينها سوف نرى سيناريو التسعينات في الجزائر يتكرر على أرض تونس الشقيقة ، وهو ما لا نتمناه، و لكنه سيناريو قابل للتكرار، ولا اعتقد بأن إمكانات أجهزة الدولة التونسية قادرة على مجابهة مثل هذه الحالة من التعقيد والصعوبة ، ستكون نتائجها أكبر من نتائج تدمير الجزائر في التسعينات وذلك لأسباب عديدة، منها؛ وجود حالة حرب وانفلات ومليشيات أجنبية على حدودها الجنوبية الشرقية مع ليبيا، ثم للصعوبات الاقتصادية التي تعيشها الشقيقة تونس، ثم لحالة انحصار قاعدة الحكم فيها، ليس بالشكل الذي يعكس استيعاب كل الحالة الشعبية، أو على الاقل هناك طعن فيها من طرف بعض من القوى الشعبية والنخب الوطنية، مع تنامي القلقل حول تماسك النسيج المجتمعي والجبهة الداخلية ، كما أن فصيلا جهاديا عنيفا من شباب تونس منخرط في لعبة السلاح بسوريا وليبيا، ويمتلكه بالفعل في ليبيا مما سيزيد من تعقيدات الوضع، كل هذا يفرض علينا قراءة متأنية تأخذ في الحسبان كل هذه المخاطر.
ناهيك عن فخ مبرمج لبناء احقاد بين بعض نخب تونسية وبين الجزائر كدولة يوصفها بأنها هي وراء الوضع السياسي التي تعيشها جارتنا الشرقية يذكرنا بحالة الاستدعاد التي كانت تمارسه بعض الابواق الليبية في مختلف الفضائيات لمعادات الجزائر اثناء ما يسمى بالربيع العربي من طرف نخب ليبيا على أساس أن الدولة الجزائرية تنقل المرتزقة الداعمة لنظام القذافي ومد القذافي بكل وسائل القمع والبقاء والاستمرار، وسقط نظام القذافي ولم تستطع هذه الأبواق والجهات الداعمة لها الحصول على أي دليل في تورط الجزائر بأي من الاتهامات التي اشتغل عليها دعاة الفتنة والايقاع بين الجزائر والشعب الليبي، الامر نفسه يتكرر الأن على الساحة التونسية، رغم أي دعم محتمل كان او سيكون هو موجه لمصلحة الشعب التونسي وليس غيره بل سوف يكتشف الناس قريباً أن محاولات حثيثة تمت وتتم لتقريب وجهات النظر وتخفيف الاحتقان والعفو ما امكن وتجاوز حالة الخلاف والاستقطاب !!!
رابعا: مخاطر منطقة الساحل والصحراء:
هو في تزايد المخاطر اللاتماثلية و أحيانا لما تقرأ التقارير تجدها تتنامى بشكل مهول و مخيف وهي بطبيعتها غير معروفة المصدر و لا متى تهاجم و لا متى تتحرك أو متى تسكن ومع شساعة منطقة الساحل والصحراء وشساعة الأراضي الجزائرية وحالة الضعف التي تعيشها عدد من الانظمة الافريقية ( خاصة أن حالة هذه التهديدات هي منطقة الساحل و الصحراء ) حيث يعشعش الفقر و التهميش والارهاب والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر والمخدرات والهجرة غير الشرعية وغيرها من التهديدات والتي جزء منها أدوات استعمارية لاسيما فيما يتعلّق بالزحف البشري غير المسبوق من طرف مهاجرين غير شرعيين أفارقة، ومطلوب من دول المغرب العربي أن تكون سدا منيعا يحمي أراضي أوروبا منه، ومحاولات متكررة من القوى المهينة تحاول أن تفرض على دول المغرب العربي توطين هؤلاء و و و ،،،،،
خامسا: مخاطر التنافس على ملأ فراغات الانعتاق الإفريقي:
إن محاولات الانعتاق الافريقي مع المستعمرة القديمة في عدد من دول الساحل ( مالي – بوركينا -…الخ )، توجب على الجزائر التفكير بشكل جدي لملأ الفراغ الذي سيحصل بسبب فك الارتباط مع المستعمرة القديمة لا سيما في دولة مالي من أجل تأمين حدود الجزائر بالشكل الذي لا يعرض جيشنا و قوانا الامنية لأي خطر وكذا وحدة شعبنا وسلامتنا الترابية، لإن حالة المجهول التي تسير فيها هذه الدول وعدم القدرة على التنبؤ برد فعل القوى الفاعلة إزاء ذلك الانفكاك نتيجة لفقدان المصالح الحيوية و مناطق النفوذ وثروات معدنية، بل إن شغل ذلك الفراغ مرة أخرى من القوى المعادية لفرنسا خصوصا و القوى الغربية عموما أو منافسة مثل الصين و روسيا، وحتى تواجد ايراني ،ان ذلك الفراغ او الحالة الطارئة الجديدة سيشكل حتماً تهديداً لمصالحنا وأمننا القومي.
ثم إن صناعة الإرهاب وسياسة محاربته ووجود الجيوش الفرنسية والاوربية في هذه الدول أثبتت فشلها لأنها لم تجلب الامن و لا الاستقرار لهذه الدول، بل زادت من معاناتها، مما فرض إعادة تقييم هذه الدول لمصالحها فاستبدلت الوجود الفرنسي و كذا الاوروبي الغربي بوجود ميليشياوي روسي (مجموعة فاغنر= Группа Вагнера )، بل حتى وجود حضور إيراني لايزال يشتغل تحت الأرض بهدوء و بدون ضجيج ، كما هناك تواجد صيني بأشكال أخرى، الأمر الذي لا اعتقد إن فرنسا مدعومة بأوروبا تقبل أن تخرج من المشهد وتتقبل الواقع الجديد وتسلم فيه بدون أي ردة فعل أمام فقدانها لهذا المجال الحيوي و خاصة و العالم الجديد يتشكل والمحاور والمشاريع وهي بحالة من التنافس بل و التحارب لفرض سيطرة على الأرض وعلى الثروات وعلى المواقع الاستراتيجية،
وذلك الواقع و بأي ردة فعل غير عقلانية و خشنة من طرف القوى الاستعمارية التقليدية تؤدي إلى زعزعة لاستقرار المنطقة التي تعد الحزام الآمن لجغرافيا الجزائر خصوصا وشمال افريقيا عموما .
سادسا: مخاطر تفكيك السودان:
إن تطور الصدام المسلح في السودان بين فصائل عسكرية بحجم جيوش مثل قوات الدعم السريع بقيادة حميداتو التي يبلغ تعدادها أكثر من 100 الف مقاتل و الجيش السوداني بقيادة البرهان وتعداده يفوق 200 الف مقاتل ، إن هذا الوضع يفرض علينا دراسته دراسة استشرافية ترصد مآلات مخاطره وتداعياته التي يجب أن نقرأه في ضوء عدة متغيرات من أهمها :
أولا: الاتفاق السعودي الايراني والذي يبدو أنه تم بضمانات صينية، الامر الذي سوف يقرب المسافات بين أطراف الأزمة اليمنية ووقف حالة الاستنزاف في المال والرجال لكل الاطراف المتحاربة، ولعله يسهم في إيجاد مصالحات بين شركاء الوطن في اليمن على المدى المتوسط ، وهو ما سوف ينعكس إيجابا في اتجاه صيانة أمن المملكة العربية السعودية خصوصا، وأمن دول الخليج عموما، وبهذا الانجاز المتبصر للديبلوماسية السعودية، كان لزاما على بعض القوى التوتير في المنطقة وفي مقدمتها دولة إسرائيل المحتلة أن يختلق أزمة أخرى في الإقليم تؤثر سلبا على أمن الخليج عموما وأمن السعودية خصوصا وتدعهم بشكل دائم غارقين في البحث عن حلول لأمنهم بدلا من أن يظفروا بأي حالة استقرار تؤهلهم لأدوار محورية في المنطقة.
ثانيا : حالة الضغط الدائمة على الدولة المصرية حتى لا يسمح لها ان تلعب هي الأخرى أي دور في استقرار المنطقة أو حمايتها، والإمعان في تركها غارقة في ازمات داخلية أو على حدودها، وكل ذلك يدخل في سياقات تحصين أمن دولة إسرائيل المحتلة الذي تباشردولته المحتل حربا على المياه لخنق مصر بالتغلغل في افريقيا باستراتيجية محكمة منذ عقود، وسوف تكون أحد حلقاتها المهمة حالة الفوضى التي يعيشها السودان من خلال الضغط على الدولة المصرية بتهديد إمداداتها من مياه نهر النيل فضلا عن الخلاف المصري الاثيوبي حول سد النهضة وانعكاساته السلبية على الأمن القومي المصري لا سيما ما تعلق منه بالأمن المائي .
ثالثا: إن نجاح الاختراق الاستراتيجي الذي انجزته روسيا في قمة البشير وبوتين عام 2017 قصد بناء مركز لوجستي في ولاية البحر الاحمر، وبالفعل سنة 2020 شرع في بإنجاز المركز، الذي سيكون منصة هامة لجمع المعلومات الاستخباراتية لمراقبة أنشطة القوى الغربية المنافسة وحليفاتها في البحر الأحمر وفي القرن الافريقي وفي شبه الجزيرة العربية، والذي من شأنه أن يمثل مصدر قلق للولايات المتحدة الأمريكية خاصة أن مفهوم منطقة الساحل والصحراء في التعريف الامريكي تبدأ شرقا من البحر الأحمر وتنتهي غربا على ضفاف المحيط الاطلسي كمنطقة من أهم المناطق الثروات وكأهم منطقة للأخطار اللاتماثلية.
رابعا: إن الاحتراب على الطاقة والثروات يعتبر محددا رئيسيا في أسباب ودوافع الفوضى التي يعيشها السودان، فلم يعد خافيا على أحد أن من أهم القرارات التي اتخذتها إدارة الولايات المتحدة الاميركية بعد ازمة النفط سنة 1973 هو البدأ بالبحث عن مصادر بديلة للثروات ووقع الاختيار على أرض السودان كمصدر يسد جزء من ذلك، ومن ثَمَّ بدأ مشروع التقسيم السودان إلى شمال وجنوب لتسهيل العملية.
خامسا: إن التحولات الدولية تبدأ عادة بحالة فوضى وحالات ارباك واضطراب وعنف يليه تشكل نظام جديد، وبالتالي فإن محاولات مشاريع فوق إقليمية وفوق كونية كالمشروع الروسي أو المشروع الصيني اللذين يسعيان للانعتاق من نظام كوني وحيد إلى نظام ثنائي الأقطاب و متعدد المشاريع والمحاور.
وبالتالي فإن تصميم الغرب بقيادة أمريكا لمقاومة أي تغيير في نظام الهيمنة العالمي هو الذي يفسر حالات الحروب وحالات الفوضى في العديد من المفاصل الاساسية و في العديد من المواقع الاستراتيجية، إذ لم يعد خافيا على أحد بأن الجغرافيا السياسية أصبحت بلا ريب محددا رئيسيا لمفهوم القوة في العالم.
وإن موقع السودان المتميز وكذا المملكة العربية السعودية ومصر فلهم أهمية قصوى في مفهوم الجغرافيا السياسية، وتمهيدا لأي تحولات ممكنة في امتلاك القوى وفي ترتيب المنطقة ، يستطيع الدارس أن يفهم الحرب اليمنية والفوضى السودانية، إذ المشاريع المتحاربة في حالة كسر للعظم من أجل بناء مناطق نفوذ تؤمن لها مصالح حيوية، فالتواجد الصيني في السودان وفي عموم افريقيا لا محالة أمر مقلق لمشاريع أخرى مناوئة له أو معادية .
سادسا: إن نموذج الرفاهية و تحقيق اللذة للشعوب الغربية الذي أطلقته الدول الاوروبية كمبدأ ملازم لليبرالية الاوروبية، يصطدم بعدة تحديات وهو الآن في حالة تراجع، وسيصبح على المدى المتوسط مبدأ يصعب تنفيذه، بسبب تحدياته الكثيرة التي من أهمها تحدي وعي الشعوب في المستعمرات القديمة، وتحدي شح الموارد الطبيعية لا سيما الطاقة وسبل تأمين وصولها، تحدي الجغرافيا السياسية كعامل كمحدد أساسي لامتلاك القوة، وتحدي شيخوخة تلك المجتمعات الاوروبية والغربية .
ولديمومة استمرار تلك الأهداف مع صيانة الأمن القومي الغربي والمحافظة على الأمن والاستقرار، لا بد من تجاوز تلك التحديات المفروضة على صانع القرار الاوروبي بإحداث فلتان هنا أو هناك يضعف الدول القُطرية أو يحولها إلى دولة فاشلة كما هو الحال في ليبيا ومن خلال ذلك تستباح السيادة وتنهب الثروة وتهجر الأدمغة.
وفي الختام: نطرح هذا السؤال منطقتنا إلى أين ؟
وفي الحقيقة لا يستطيع أحد في ظل المخاطر اللاتماثلية (أي غير المتوقعة وغير مألوفة)أن يجزم بالشكل الذي ستتطور إليه الاحداث في السودان ، وحتى من رسم هذا السيناريو القذر لا يستطيع التنبؤ بالمآلات، والتي ستؤسس لنماذج جديدة من الفوضى ( قتال بين جيش و فصيل رسمي تابع له ـ وهي سابقة ـ يجب أخذ الحيطة منها واليقظة أمامها لأنها إذا حققت أهدافها سوف تعمم على عديد من ساحاتنا، نعم عرفنا مبدأ الفوضى الخلاقة الذي تم تطبيقه بعدة أوجه منها وجه عرفناه في لبنان كحرب بين طوائف الوطن، وفي يوغسلافيا قبل تقسيمها بين الطوائف والاثنيات، و وجه آخر بالتدخل العسكري وحل الجيوش القائمة كما رأيناه في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين، أوفي افغانستان بعد تفكيك نظام طالبان، ووجه ثالث للفوضى رأيناه في سوريا واليمن وليبيا من خلال الاحتراب بين الدولة و مكوناتها الحزبية أو المجتمعية أو النخبوية أو حتى الطائفية، ولكن هذا الوجه الجديد للفوضى يدخل في ضمن الأخطار الجديدة التي يوجب على صانع القرار التنبه لها وأخذ الحيطة القصوى منها مخاطر حدوثه و تكرارها في ساحاتنا عموما هو الذي يحدث الآن في السودان.
وإن الذين رسموا هذا السيناريو يهدفون لأحد أمرين؛ إما أن قيادة الدعم السريع تحسم الأمر لصالحها بالانتصار على الجيش السوداني ولو أن أغلب المحللين يستبعدون ذلك، أو أن السيناريو الأكثر سوءا أن تتقهقر قوات الدعم إلى الخلف لإعلان دولة على أرض دارفور أو غيرها، وحينها تصبح السودان ثلاث دويلات الأمر الذي أكاد أجزم أنه أحد الأهداف الحقيقية لهذه الحرب، وهذا نتيجته الحتمية هو تقسيم ليبيا، وفي المدى المتوسط لدولتين أو ثلاث دول، وهو ما يوسع المخاطر إلى المنطقة والاقليم على مدى 10 أو 15 سنة على الأكثر سواءً في مصر أو في ساحات المغرب العربي وبقية دول الساحل والصحراء، وهو السيناريو المرعب في تقديرنا .
الخلاصة: إنه أصبحت لدي شخصيا قناعة تامة غير قابلة للتغيير بأن الجزائر في منطقة مخاطر، والعالم الذي من حولها يعيش فوضى ولا يستطيع ان يقنعنا أي أحد أن ما ننعم به من أمن واستقرار هو حالة دائمة ومسلّم لنا بها، ونغفل بسبب هذا الارتخاء في اليقظة عن رصد المتغيرات من حولنا والتحركات بيننا وفي وطننا، بل يجب أن نضاعف الجهد للتوعية بالمخاطر، وأن يتحمّل الجميع أعباء التحديات بمسؤولية كاملة كلا على حسب مهمته وطاقته.
ومن ملامح وعي الشعوب وقوة الدول أنه عندما تكون هناك تهديدات كبرى أو مخاطر لا تماثلية أو حتى فرص تاريخية أنه تضطر إلى تحيين خططها وبعض أدبياتها في السياسة الخارجية وسياسة الدفاعية، والجزائر الجديدة دولة وشعبا مدعو في هذه المرحلة إلى الاتجاه إلى هذه الوجهة وخاصة أن الدستور الجديد قد حدد بكل وضوح نطاق تدخلات الجزائر في إطار القانون الدولي، وكذا بالهدف الذي يحمي مصالحنا الحيوية ويصون أمننا الوطني وأمننا القومي الذي يدخل ضمنه أمن جيراننا الذين يقعون في منطقتنا الحيوية.
بقي أن أشير أن التطبيع مع دولة إسرائيل المحتلة الذي لجأت إليه سلطات دولة السودان مؤخرا لم يكن عاصما لها من التوتر، ولم يكن نافذة لجلب الاستثمار الخارجي، ولا فرصة للتنمية الاقتصادية لامتصاص البطالة وتحقيق الأمن والاستقرار، بل على العكس من ذلك ، كان جالباً للتصادم والإحتراب، الأمر الذي يوجب علينا أن نكون يقظين جدًا فيما قد يحدث على حدودنا الغربية لا قدر الله بعد انخراط المخزن في مسلسل الهرولة نحو التطبيع مع دولة إسرائيل المحتلة ، كما علينا أن نكشف طبيعة المهمة والسيناريو المرسوم للمخزن من طرف هذ الدولة المحتلة، كما يوجب علينا اتخاذ الاجراءات اللازمة ولو من طرف أحادي الجانب لحماية مصالحنا الحيوية كما تفعل بقية الدول عندما تشعر بتعرض أمنها وسلامتها الترابية ووحدة شعبها للمخاطر .
ولن نكون بهذا الاستعداد استثناء بل بالعكس فإن دولة مثل روسيا حين رأت مهددات حقيقية لأمنها القومي قامت بتحيين عقيدتها العسكرية ومبادئ سياستها الخارجية وكان ذلك بداية من التسعينات لما أحست بخطر تدخلات حلف الناتو خارج الشرعية الدولية لضرب يوغسلافيا، ثم حينتها مرة أخرى بعد الازمة الروسية الاوكرانية، وكذلك الأمر بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فإن الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي لسنة 2015 الموضع في عهد الرئيس أوباما قد صنفت الصين كشريك استراتيجي، لكنها سنة 2017 أعادة تقييم الوضع وصنفت الصين كمنافس استراتيجي، خطر رئيسي للأمن القومي الامريكي، وتحدي كبير للنظام العالمي، وبعد الأزمة الروسية ـ الأوكرانية أعادة الاستراتيجية الأمريكية تصنيف روسيا والصين على أنهما الخطر القريب الداهم.
وبنهاية هذا المقال فان صيانه الامن القومي والمصالح الحيوية لأي دولة ليس بالضرورة دوما عن طريق الطرق الخشنة او عن طريق الامن الدفاعي ولكن كذلك بالطرق الناعمة فلدينا من الامكانات والقدرات والتجارب الوطنية مما يساعد جزءا من ساحات جيراننا تجعلها تستقر وتنعم بالأمن والاستقرار فلماذا غيرنا صدر ثرواته كالثورة الشيوعية او الثورة الإيرانية ولماذا عموم الدول الغربية لا سيما المهيمنة منها تفرض قيم واحيانا مناقضة لموروث شعوب اخرى وبشكل عنيف بينما نحن نملك قيمة كبيرة وهي المصالحة الوطنية التي ساهمت بشكل كبير في حلحلة ظواهر ومخلفات المأساة الوطنية وكانت ثمرتها تحقيق مزيدا من الامن والاستقرار وحقن الدماء وصانت مقدرات ومنجزات فلماذا هذه القيمة الايجابية لا نعممها على الدول الاخرى لا سيما تلك الدول التي أمنها القومي يرتبط بأمن وطننا انها حاله يجب ان تتظافر وتتكامل بها جهود الدولة مع جهود جميع النخب والهيئات من اجل صيانه امننا القومي وامن جميع الاشقاء والاصدقاء بما يؤهل دولنا للعب دور الفاعلين في عملية التشكل الجديدة.
عبد القادر بن قرينة سياسي ومفكر استراتيجي جزائري