لم يكن الرئيس الجزائري الراحل هواري بو مدين يرجم بالغيب وهو يقول ما معناه إن نصرة القضية الفلسطينية ودعم جهادها هو الإسمنت الذي يدعم الوحدة العربية، كما أن التهاون في نصرة القضية سيكون الديناميت الذي يفجر تلك الوحدة، وهي كلمات تتأكد صحتها يوما بعد يوم، بل ساعة بعد ساعة.
وفي الذكرة التاسعة والستين لاندلاع الثورة الجزائرية التي تزامنت مع “طوفان الأقصى” أحاول أن أستعرض، في كلمات برقية، سر العلاقة الخاصة بين الجزائر وفلسطين.
فكثيرون لا يعرفون أن نصرة القضية الفلسطينية والجهاد العربي ضد الغزاة لم يكن نزوة طارئة أو انتفاضة عابرة، وغياب الصورة الكاملة للدعم الجزائري يعود إلى تفادي رجالاتنا استعراض مساهماتهم في الجهاد العربي عبر السنين، ربما بتأثير عقدة نتجت عن مبالغة آخرين في التهليل لمساهماتهم في دعم الثورة الجزائرية.
ولقد فوجئ كثيرون عندما عرفوا أن اختيار الرئيس الراحل لاسم بو مدين كاسم ثوري لم يكن أمرا ارتجاليا، بل كان تسجيلا لدور “بو مدين” الغوث الذي فقد ذراعه وهو يحارب في جيوش صلاح الدين ضد الصليبيين منذ أكثر من عشرة قرون.
ودفنت الذراع عند أسوار بيت المقدس بالقرب من الحي الذي كان اسمه “حارة المغاربة”، والتي كانت أوقافا حبسها مجاهدو المغرب العربي لكل ما تُنفَق عليه مداخيل الأوقاف، إلى أن هدمها الكيان الصهيوني في توسعته لمنطقة حائط البراق الذي أسموه حائط المبكى.
وعرفت الثلاثينيات والأربعينيات مساهمة العديد من الجزائريين في حملات التضامن مع الشعب الفلسطيني، وتألق آنذاك نجمُ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ الفضيل الورتلاني باسم جماعة الإخوان المسلمين والشيخ الهلالي عميمور باسم الطريقة العلوية، وكان عميمور هو ممثل المغرب العربي في لجنة عروبة القدس التي كان يرأسها الحاج أمين الحسيني، كما روى ذلك أكرم زعيتر في برنامج أردني متلفز.
وكان الإعلامي سهيل الخالدي ممن عملوا على تخليد المساهمات الجزائرية لدعم الجهاد الفلسطيني في حدود ما أمكنه الحصول عليه من وثائق.
لكن المساهمة المعاصرة الأكثر فعالية كانت ما قام به الرئيس بو مدين بعد استقباله لياسر عرفات في منتصف الستينيات، عندما قال له: أطلق رصاصة أو قم بعملية ضد الكيان الصهيوني وستجدنا إلى جانبك، وهو ما حدث فعلا وتواصل إلى يوم الناس هذا.
كان هذا هو الموقف السليم لرجل دولة يستقبل مناضلا لا يعرفه ولا يسبقه تاريخ جهاديّ يُعرّف به، وهو نفس ما قاله جمال عبد الناصر لأحمد بن بله، الذي وصل إلى مصر تحت اسم مزياني مسعود ليطلب دعم مصر في تفجير ثورة الجزائر.
وليس من باب التفاخر الأحمق أن نقول بأن الثورة الجزائرية كانت مصدر الإلهام الأول للثورة الفلسطينية، ولأكثر من سبب.
السبب الأول هو أن الكيان الصهيوني مارس في فلسطين نفس أسلوب الاستعمار الاستيطاني الذي عرفته الجزائر خلال الاستعمار الفرنسي، وتماما كما شُرّد أبناء الجزائر من أرضهم لمصلحة أوربيين ملهوفين شرد أبناء فلسطين من أرضهم لمصلحة الأشكيناز الغزاة.
والسبب الثاني هو أن المواجهة، في الجزائر وفي فلسطين، كانت ضد جيش مزود بكل الأسلحة الفتاكة، وفي الوقت نفسه ضد جموع مستوطنين كانوا شذاذ آفاقٍ يتصفون بالاستعلاء الذي يعبر عن عقدة نقص كانت جزءا من وجودهم.
ويضاف إلى هذا سبب جوهري هو إدراك المجاهدين أن المعركة مع العدوّ هي معركة طويلة يجب أن تعتمد عل أسلوب الكرّ والفرّ الذي يرهقه ويمتص قواه، وهو ما يعني أن الحرب يجب أن تلجأ لأسلوب العصابات لأن هذا هو الأسلوب الممكن في مواجهة عدوّ يسيطر على الأرض ويتحكم في الجوّ ويتمتع بدعم قوًى دولية لا ترضى بقيام وجود عربي إسلامي يتحكم في ثرواته الطبيعية ويسيطر على مجاله الجغرافي.
من هنا كان من الطبيعي أن تكون الثورة الجزائرية هي المثال الذي يُحتذى به، والقدوة التي يتحتم أن تسير الثورة الفلسطينية على هداها.
وهكذا كانت القيادة الجزائرية في طليعة من لجأ إليهم المجاهدون الفلسطينيين، مع الأخذ بعين الاعتبار ما تفرضه عليهم التوازنات الإقليمية في المشرق العربي من حساسيات لا يمكن تجاهلها.
وهنا جاء الخلل الذي كان له دوره في المساس بفعالية الكفاح الفلسطيني.
فبينما تمكنت الثورة الجزائرية من تحقيق السيطرة الكاملة على كل ما يتعلق بالقرار الجزائري تعرضت الثورة الفلسطينية إلى الكثير من التدخلات التي لا مجال لاستعراضها اليوم.
وربما كان من نتيجة هذا تعدد الفصائل الفلسطينية بتعدد المراجع العربية التي كانت تستند لها وتعتمد عليها.
لكن الجزائر حرصت منذ انطلاقة الثورة الفلسطينية على ألا تدخل في جوّ التلاعب بين الفصائل الفلسطينية، وهكذا التزمت بدعم القوة المقاتلة التي حملت اسم “فتح” بدون أن تعادي قيادات الفصائل الأخرى التي لا تنسجم، لسبب أو لآخر، مع ياسر عرفات.
والذي يعود إلى كتابات مجلة “الجيش” في الستينيات، إثر انطلاق الثورة الفلسطينية، سيلاحظ تركيز الخط الافتتاحي للمجلة، التي كان يرعاها ويوجهها هواري بو مدين، على أن القضية فلسطينية أولا عربية ثانيا، ولا مجال لقلب المعادلة وإلا كان الأمر سلبا لحق الفلسطينيين في اتخاذ القرار الذي يهم ثورتهم.
ومن هنا كان حرص الجزائر على دعم منظمة التحرير الفلسطينية والمناداة بها كممثل شرعي ووحيد للثورة الفلسطينية، وهو ما كان أحيانا سببا في فتور علاقة الجزائر ببعض الأطراف العربية، خصوصا عندما بدأت الجزائر في تزويد الثورة الفلسطينية بالأسلحة والمعدات الحربية.
كان كل هذا يدور في ذاكرتي وأنا أصطحب ياسر عرفات في منتصف السبعينيات إلى مطار الجزائر لتقله طائرة جزائرية إلى نيويورك، حيث سيلقي خطابه التاريخي في دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة التي كان يرأسها عبد العزيز بو تفليقة.
لكن المثير للأسى هو أن إجهاض النتائج السياسية لحرب أكتوبر 1973 المجيدة أعطى لكيسنجر فرصة انتزاع القرار السيادي العربي، وأعطي الكلمة الأخيرة للكيان الصهيوني.
وهكذا كانت زيارة القدس المحتلة في نوفمبر 1977 بداية الانحراف الذي قاد إلى أوسلو، وكان اغتيال ياسر عرفات طيّا لصفحة من أهم صفحات الجهاد الفلسطيني، وتولى أمر القضية، بدعم غربي واضح، بعض من لم يبذلوا جهدا نضاليا لتفادي تفتت الصف الفلسطيني.
وإذا كنت أتفادى استعراض ما قامت به الجزائر دعما للثورة الفلسطينية لأنني أراه أقلّ من نقطة دمٍ واحدة لشهيد، يمكنني أن أقول أن من بين ما كنت أريد أن أتفادى تناوله هو أن الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية كان سبب مواقف عدائية تعرضنا لها من أطرافٍ عربية، وبعض هذه المواقف معروف للجميع والبعض الآخر يمكن استنتاجه من تصرفات البعض بالأمس القريب والبعيد.
وكان أخطر ما في الأمر هو أن تطبيع بعض الأطراف العربية كان الداعم الرئيسي لشراسة العدوّ الصهيوني التي عشناها في الأيام الماضية.
وأخطر من كل هذا هو ما سمعناه مؤخرا من أن أطرافا عربية هي أحرص للقضاء على المقاومة الفلسطينية من العدوّ الصهيوني.
ويكفي أن بعضها لا يخجل من الإشارة لرجال المقاومة على أنهم إرهابيون.
وفيما يتعلق بنا، فإن من إيجابيات المأساة سقوط أقنعة البعض، وهكذا تأكد ما كنا نراه من أن الفرانكوفونية “الجديدة” هي فرانكوفيلية فاجرة.
رحم الله الشهداء ولا قرت أعين الجبناء.
محيي الدين عميمور
كاتب ومفكر ووزير اعلام جزائري سابق